→ فصل: الإنسان والشهوة | صيد الخاطر فصل: حقيقة الذهد ابن الجوزي |
فصل: جهاد النفس ← |
فصل: حقيقة الزهد
بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام فقال: لا آكل. فقيل له: لم؟ قال: لأن نفسي تشتهيه، وأنا منذ سنين ما بلغت نفسي ما تشتهي. فقلت: لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين، وسبب خفائها عدم العلم. أما الوجه الأول: فإن النبي ﷺ لم يكن على هذا ولا أصحابه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأكل لحم الدجاج، ويحب الحلوى والعسل. ودخل فرقد السبخي على الحسن وهو يأكل الفالوذج. فقال: [ يا فرقد ما تقول في هذا ]؟ فقال [ لا آكله ولا أحب من أكله ]. فقال الحسن: [ لعاب النحل، بلباب البر، مع سمن البقر، هل يعيبه مسلم؟ ]. وجاء رجل إلى الحسن فقال: [ إن لي جارا لا يأكل الفالوذج ] فقال [ ولم؟ ] قال يقول: [ لا أؤدي شكري ]، فقال [ إن جارك جاهل وهل شكر الماء البارد؟ ]. وكان سفيان الثوري يحمل في سفره الفالوذج. والحمل المشوي، ويقول: [ إن الدابة إذا أحسن إليها عملت ]. وما حدث في الزهاد بهدهم من هذا الفن فأمور مسروقة من الرهبانية. وأنا خائف من قوله تعالى: لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا. ولا نحفظ عن أحمد من السلف الأول من الصحابة من هذا الفن شيء أن يكون ذلك لعارض. وسبب ما يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه اشتهى شيئا فآثر به فقيرا، وأعتق جاريته رميثة، وقال: [ إنها أحب الخلق إلي ]، فهذا وأمثاله حسن، لأنه إيثار بما هو أجود عند النفس من غيره، وأكثر لها من سواه. فإذا وقع في بعض الأوقات، كسرت الفعل سورة هواها أن تطغى بنيل كل ما تريد. فأما من دام على مخالفتها على الإطلاق، فإنه يعمي قلبها، ويبلد خواطرها، ويشتت عزائمها، فيؤذيها أكثر مما ينفعها. وقد قال إبراهيم بن أدهم: إن القلب إذا أكره عمى. وتحت مقالته سر لطيف وهو أن الله عز وجل قد وضع طبيعة الآدمي على معنى عجيب، وهو أنها تختار الشيء من الشهوات مما يصلحها، فتعلم باختيارها له صلاحه، وصلاحها به. وقد قال حكماء الطب: ينبغي أن يفسح للنفس فيما تشتهي من المطاعم، وإن كان فيه نوع ضرر، لأنها إنما تختار ما يلائمها، فإذا قمعها الزاهد في مثل هذا عاد على بدنه بالضرر. ولولا جواذب الباطن من الطبيعة ما بقي البدن فإن الشهوة للطعام تثور، فإذا وقعت الغنية بما يتناول كفت الشهوة. فاشهوة مريد ورائد، ونعم الباعث هي على مصلحة البدن. غير أنها إذا أفرطت وقع الأذى، ومتى منعت ما تريد على الإطلاق مع الأمن من فساد العاقبة عاد ذلك على النفس بالفساد، ووهن الجسم، واختلاف السقم الذي تتداعى به الجملة، مثل أن يمنعها الماء عند اشتداد العطش، والغذاء عند الجوع، والجماع عند قوة الشهوة، والنوم عند غلبته، حتى إن المغتم إذا لم يتروح بالشكوى قتله الكمد. قهذا أصل إذا فهمه هذا الزاهد. علم أنه قد خالف طريق الرسول ﷺ وأصحابه. من حيث النقل، وخالف الموضوع من حيث الحكمة. ولا يلزم على هذا قول القائل: فمن أين يصفو المطعم؟ لأنه إذا لم يصف كان الترك ورعا، وإنما الكلام في المطعم الذي ليس فيه ما يؤذي في باب الورع وكان ما شرحته جوابا للقائل: ما أبلغ نفسي شهوة على الإطلاق. والوجه الثاني: أني أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك فصار يشتهي ألا يتناول، وللنفس في هذا مكر خفي، ورياء دقيق، فإن سلمت من الرياء للخلق، كانت الآفة من جهة تعلقها بمثل هذا الفعل، وإدلاها في الباطن به، فهذه مخاطرة وغلط. وربما قال بعض الجهال: هذا صد عن الخير وعن الزهد. وليس كذلك، فإن الحديث قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد. ولا ينبغي أن يغتر بعبادة جريح، ولا بتقوى ذي الحويصرة، ولقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول ﷺ، ولا أصحابه، من إظهار التخشع الزائد في الحد، والتنوق في تخشين الملبس، وأشياء صار العوام يستحسونها. وصارت لأقوام كالمعاش يجتنون من أرباحها: تقبيل اليد، وتوفير التوقير وحراسة الناموس. وأكثرهم في خلوته، على غير حالته في جلوته. وقد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قهقهة، وإذا خلا بالليل فكأنه قتل أهل القرية. فنسأل الله تعالى علما نافعا فهو الأصل، فمتى حصل أوجب معرفة المعبود عز وجل، وحرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه وأحبه، وسلك بصاحبه طريق الإخلاص. وأصل الأصول ـ العلم، وأنفع العلوم النظر في سير الرسول ﷺ وأصحابه أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.