→ فصل: نصيحة العلماء والزهاد | صيد الخاطر فصل: شبه في الزهد وبيانها ابن الجوزي |
فصل: من أدلة البعث ← |
فصل: شبه في الزهد وبيانها
رأيت جمهور الناس حائدين عن الشريعة، جارين على ما ألفوا من العادة. وقد يخلص منهم فريقان: علماء وعباد. فتأملت جمهور العلماء فرأيتم في تخليط، منهم من يقتصر على علم معاملات الدنيا ويعرض عن معاملات الآخرة. وإما لجهله بها، أو لثقل أمرها عليه، فهو لا يجري على ما يثقل عليه مما يوجبه العلم، ويتبع في الباقي العادات. وربما تخايل أنه يسامح في الخطايا لكونه عالما، وقد نسي أن العلم حجة عليه. ومنهم من هو واقف مع صورة العلم، غافل عن المقصود بالعلم، وفيهم من يخالط السلطان، فيتأذى المخالط بما يرى من الذنوب والظلم ولا يمكنه الإنكار. وربما مدح هو، ويتأذى السلطان بصحبته فيقول: لو لا أني على صواب ما جالسني هذا. ويتأذى العوام فيقولون: لو لا أن أمر السلطان قريب ما خالطه هذا العلم. ورأيت الأشراف يثقون بشفاعة آبائهم، وينسون أن اليهود من بني إسرائيل. وأما الفريق الثاني وهم العباد فرأيت أكثرهم في تخليط. أما الصحيحو القصد منهم فعلى غير الجادة في أكثر عملهم، قد وضع لهم جماعة من المتقدمين كتبا فيها دقائن قبيحة، وأحاديث غير صحيحة، ويأمرون فيها بأشياء تخالف الشريعة. مثل كتب الحارث المحاسب ي، وأبي عبد الله الترمذي، وقوت القلوب لأبي طالب المكي وكتاب الإحياء لأبي حامد الطوسي. فإذا فتح المبتدئ عينه، وهم بسلوك الطريق بهذه الكتب، حملته إلى الخطايا، لأنهم قد بنوا على أحاديث محالة. ويذمون الدنيا، ولا يدرون ما المذموم منها. فيتصور المبتدئ ذم ذات الدنيا، فيهرب المنقطع إلى الجبل، وربما فاتته الجماعة والجمعة، ويقتصر على البلوط والكمثري فيورثه القولنج. ويقنع بعضهم بشرب اللبن فينحل الطبع، أو يأكل الباقلاء والعدس فيحدث له قراقر. وإنما ينبغي لقاصد الحج أن يرفق أولا بالناقة ليصل. ألا ترى للفطن من الأتراك يهتم بفرسه قبل تحصيل قوت نفسه. وربما تصدى القاص لشرح أحوال قوم من السلف والمتزهدين فبتبعهم المريد فيتأذى بذلك. ومتى رددنا ذلك المنقول وبينا خطأ فاعله قال الجهال: أترد على الزهاد؟ وإنما ينبغي اتباع الصواب ولا ينظر إلى أسماء المعظمين في النفوس. فإنا نقول: قال أبو حنيفة، ثم يخالفه الشافعي، وإنما ينبغي أن يتبع الدليل. قال المروذي؟: مدح أحمد بن حنبل النكاح، فقلت له: قد قال إبراهيم بن أدهم، فصاح وقال: وقعنا في بينات الطريق، عليك بما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه. وتكلم أحمد في الحارث المحاسبي ورد على سري السقطي حين قال: لما خلق الله الحروف وقف الألف وسجدت الباء، فقال: نفروا الناس عنه، فالحق لا ينبغي أن يحابى، فإنه جد. وإني أرى أكثر الناس قد حادوا عن الشريعة، وصار كلام المتزهدين كأنه شريعة لهم. فيقال: قال أبو طالب المكي: [ كان من السلف من يزن قوته بكرية فينقص كل يوم. ]. وهذا شيء ما عرفه رسول الله ﷺ ولا أصحابه وإنما كانوا يأكلون دون الشبع. فأما الحمل على النفس بالجوع فمنهي عنه. ويقول: قال داود الطائي لسفيان: [ إذا كنت تشرب الماء البارد متى تحب الموت؟ وكان ماؤه في دن ]. وما علم أن للنفس حظا، وأن شرب الماء الحار يرهل المعدة ويؤذي، وأن رسول الله ﷺ كان يبرد الماء. ويقول آخر منهم: منذ خمسين سنة أشتهي الشواء ما صفا لي درهمه. ويقول آخر: أشتهي أن أغمس جزرة في دبس فما صح لي. أتراهم أرادوا حبة منذ خرجت من المعدن ما دخلت في شبهة؟ وهذا ما نظر فيه رسول الله ﷺ وإن كان الورع حسنا، ولكن لا على حمل المشاق الشديدة. وهذا بشر الحافي يقول: لا أحدث لأني أشتهي أن أحدث، وهذا تعليل لا يصلح، لأن الإنسان مأمور بالنكاح، وهو من أكبر المشتهي. وكان بشر حافيا حتى قيل له الحافي، ولو ستر أمره بنعلين كان أصلح. والحفاء يؤذي العين، وليس من أمر الدنيا في شيء. فقد كان رسول الله ﷺ نعلان. وما كانت سيرة رسول الله ﷺ وأصحابه على ما المتزهدون عليه اليوم. فقد كان رسول الله ﷺ يضحك ويمزح ويختار المستحسنات ويسابق عائشة رضي الله عنه، وكان يأكل اللحم، ويحب الحلوى، ويستعذب له الماء. وعلى هذا كان طريقه أصحابه، فأظهر المتزهدون طرائق كأنها ابتداء شريعة، وكلها على غير الجادة. ويحتجون بقول المحاسبي والمكي، ولا يحتج أحد منهم بصحابي ولا تابعي ولا بإمام من أئمة الإسلام. فإن رأوا عالما لبس ثوبا جميلا، أو تزوج مستحسنة، أو أفطر بالنهار، أو ضحك، عابوه. فينبغي أن يعلم أن أكثر من صح قصده منهم على غير الجادة لقلة علمهم. حتى أن بعضهم يقول: منذ ثمانين سنة ما اضطجعت. ويقول آخر: حلفت لا أشرب الماء سنة. وهؤلاء على غير الصواب، فإن للنفس حقا. فأما من ساء قصده ممن نافق وراءى لاجتلاب الدنيا وتقبيل الأيدي فلا كلام معه، وهم جمهور المتصوفة، فإنهم رفعوا الثياب الملونة ليراهم الناس بعين الترك للزينة، وما معهم أحسن من السفلاطون. وإنما رفع القدماء للفقر. فهم في اللذات وجمع المال وأخذ الشبهات واستعمال الراحة واللعب ومخالطة السلاطين. وهؤلاء قد كشفوا القناع، وباينوا زهد أوائلهم. بلى: أعجب منهم من ينفق عليهم..