→ فصل: الحذر واجب | صيد الخاطر فصل: ملاطفة الأعداء حتى التمكن منهم ابن الجوزي |
فصل: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ← |
فصل: ملاطفة الأعداء حتى التمكن منهم
ينبغي أن يكون شغل العاقل النظر في العواقب والتحرز مما يمكن أن يكون. ومن الغلط النظر في الحالة الحاضرة الموافقة لمعاشه ولصحة بدنه، وربما لا يجري له مصحوبة فينبغي أن يعمل على انقطاع ذلك، فيكون مستعدا لتغير الأحوال. كذلك النظر في لذة تفنى وتبقى تبعتها وعارها، وإيثار الكسل والدعة لما يجيء بعدهما من بقاء الجهل. وكذلك تحصيل المرادات التي لا تحصل إلا بالتلطف في الاحتيال، خصوصا إذا أريد من ذكي فإنه يفطن بأقل تلويح. فمن أراد غلبة الذكي دقق النظر وتلطف في الاحتيال. وقد ذكر في كتب الحيل ما يشحذ الخواطر، وأتينا بجملة منه في كتاب الأذكياء. مثلما روي أن رجلا من الأشراف كان لا يقوم لأحد ولا يخشى أحدا، فجاز عليه بعض الوزراء وحي فلم يرد ولم يقم. فقال ذاك الوزير لرجل: أخبر فلانا أني قد كلمت أمير المؤمنين في حقه، وقد أمر له بمائة ألف، فليحضر ليقبضها، فأخبره ذلك الرجل. فقال الشريف: إن كان أمر لي بشيء فلينفذه لي، وإنما مقصوده أن يضع مني بالتردد عليه. فمتى وقع الإنسان مع ذكي فينبغي أن يتحرز منه، [ كما ينظر صاحب الرقعة النقلات ]. وكثير من الأذكياء لم يقدروا على أغراضهم من ذكي فاعطوه وبالغوا في إكرامه ليصيدوه، فإن كان قليل الفطنة وقع في الشرك، وإن كان أقوى منهم ذكاء علم أن تحت هذه النية خبيئا فزاده ذلك احترازا. وأقوى ما ينبغي أن يكون الاحتراز من موتور، فإنك إذا آذيت شخصا فقد غرست في قلبه عداوة، فلا تأمن تفريع تلك الشجرة، ولا تلتفت إلى ما يظهر من ود وإن حلف، فإن قاربته فكن مكنه على حذر. ومن التغفل أن تعاقب شخصا أو تسيء إليه إساءة عظيمة وتعلم أن مثل ذلك يجدد الحقد، فتراه ذليلا لك طائعا تائبا مقلعا عما فعل، فتعود فتستطيبه وتنسى ما فعلت وتظن أنه قد انمحى من قلبه ما أسلفت. فربما عمل لك المحن، ونصب لك المكايد، كما جرى لقصير مع الزباء، وأخباره معروفة. فإياك أن تساكن من آذيته، بل إن كان ولا بد فمن خارج، فما تؤمن الأحقاد. ومتى رأيت عدوك فيه غفلة لا يثنيه مثل هذا فأحسن إليه، فإنه ينسى عداوتك ولا يظن أنك قد أضمرت له جزاء على قبح فعله، فحينئذ تقدر على بلوغ كل غرض منه. ومن الخور إظهار العداوة للعدو.... ومن أحسن التدبير التلطف باللأعداء إلى أن يمكن كسر شوكتهم... ولو لم يمكن ذاك كان اللطف سببا في كف أكفهم عن الأذى، وفيهم من يستحي لحسن فعلك فيتغير قلبه لك. وقد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن رجلا قد شتمهم أهدوا إليه وأعطوه، فهم بالعاجل يكفوه شره، ويحتالون في تقليب قلبه، ويقع ذلك لهم مهلة لتدبير الحيل عليه إن أرادوا. وكفى بالذهن الناظر إلى العواقب والتأمل لكل ممكن مؤدبا.