→ فصل: الانقياد للشرع لا اتباع العادات | صيد الخاطر فصل: فضل عزلة العالم ابن الجوزي |
فصل: حديث ابن الجوزي عن نفسه ← |
فصل: فضل عزلة العالم
ما أعرف للعالم قط لذة ولا عزا ولا شرفا ولا راحة ولا سلامة أفضل من العزلة، فإنه ينال بها سلامة بدنه ودينه وجاهه عند الله عز وجل وعند الخلق، لأن الخلق يهون عليهم من يخالطهم، ولا يعظم عندهم قد المخالط لهم، ولهذا عظم قدر الخلفاء لإحتجابهم. وإذا رأى العوام أحد العلماء مترخصا في أمر مباح هان عندهم، فالواجب عليه صيانه علمه وإقامة قدر العلم عندهم. فقد قال بعض السلف: كنا نمزح ونضحك، فإذا صرنا يقتدى بنا فما أراه يسعنا ذلك. وقال سفيان الثوري: تعلموا هذا العلم واكظموا عليه، ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب. فمراعاة الناس لا ينبغي أن تنكر. وقد قال ﷺ لعائشة: لو لا حدثنا قومك في الكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين. وقال أحمد بن حنبل في الركعتين قبل المغرب: [ رأيت الناس يكرهونهما فتركتهما ]. ولا تسمع من جاهل يرى مثل هذه الأشياء رياء، إنما هذه صيانة للعلم. وبيان هذا أنه لو خرج العالم إلى الناس مكشوف الرأس أو في يده كسرة يأكلها قل عندهم وإن كان مباحا، فيصير بمثابة تخليط الطبيب الآمر بالحمية. فلا ينبغي للعالم أن ينبسط عند العوام حفظا لهم، ومتى أراد مباحا فليستتر به عنهم. وهذا القدر الذي لاحظه أبو عبيدة حين رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قد قدم الشام راكبا على حمار ورجلاه من جانب، فقال: [ يا أمير المؤمنين يتلقاك عظماء الناس، فما أحسن ما لاحظ ]. إلا أن عمر رضي الله عنه أراد تأديب أبي عبيدة بحفظ الأصل فقال: [ إن الله أعزكم بالإسلام فمهما طلبتم العزة في غيره أذلكم ]. والمعنى ينبغي أن يكون طلبكم العز بالدين لا بصور الأفعال، وإن كانت الصور تلاحظ. فإن الإنسان يخلو في بيته عريانا، فإذا خرج إلى الناس لبس ثوبين وعمامة ورداء. ومثل هذا لا يكون تصنعا ولا ينسب إلى كبر. وقد كان مالك بن أنس يغتسل ويتطيب ويقعد للحديث، ولا تلتفت يا هذا إلى ما ترى من بذل العلماء على أبواب السلاطين، فإنه العزلة أصون للعالم والعلم، وما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما يربحونه. وقد كان سيد الفقهاء سعيد بن المسيب لا يغشى الولاة، وعن قول هذا سكتوا عنه، وهذا فعل الحازم. فإن أردت اللذة والراحة فعليك أيها العالم بقعر بيتك، وكن معتزلا عن أهلك يطب لك عيشك، وإجعل للقاء الأهل وقتا، فإذا عرفوه تصنعوا للقائد، فكانت المعاشرة بذلك أجود. وليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه، وتحادث سطور كتبك، وتجري في حلبات فكرك. وإحيرس من لقاء الخلق وخصوصا العوام. واجتهد في كسب يعفك عن الطمع، فهذه نهاية لذة العالم في الدنيا. وقد قيل لا بن المبارك: ما لك لا تجالسنا؟ فقال: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين وأشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه. ومتى رزق العالم الغنى عن الناس والخلوة، فإن كان له فهم يجلب التصانيف فقد تكاملت لذة. وإن رزق فهما يرتقي إلى معاملة الحق ومناجاته فقد تعجل دخول الجنة قبل الممات. نسأل الله عز وجل همة عالية تسمو إلى الكمال، وتوفيقا لصالح الأعمال، فالسكون طريق الحق أفراد.