→ فصل: بادر بطي صحيفتك | صيد الخاطر فصل: الدنيا ميدان سباق ابن الجوزي |
فصل: الحكمة في الإبقاء على اليهود والنصارى ← |
فصل: الدنيا ميدان سباق
تأملت حالة عجيبة، وهو أن أهل الجنة الساكنين في أرضها في نقص عظيم بالإضافة إلى من فوقهم، وهم يعلمون فضللا أولئك. فلو تفكروا في ما فاتهم من ذلك وقعت الحسرات، غير أن ذلك لا يكون، لأن ذلك لا يقع لهم لطيب منازلهم، ولا يقع في الجنة غم. ويرضى كل بما أعطي من وجهين: أحدمها أنه لا يظن أن يكون نعيم فوق ما هو فيه، وإن علت منزلة غيره. والثاني أنه يحبب إليه كما يحبب إليه ولده المستوحش الخلفة فإنه يؤثره على الأجنبي المستحسن. إلا أن تحت هذا معنى لطيفا، وهو أن القوم خلقت لهم همم قاصرة في الدنيا عن طلب الفضائل يتفاوت قصورها. فمنهم من يحفظ بعض القرآن ولا يتوق إلى التمام، ومنهم من يسمع يسيرا من الحديث ومنهم من يعرف قليلا من الفقه، ومنهم من قد رضي من كل شيء بيسيره، ومنهم مقتصر على الفرائض، ومنهم قنوع بصلات ركعتين في الليل. ولو علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل، ونبت عن النقص فاستخدمت البدن، كما قال الشاعر:
ولكل جسم في النحول بلية وبلاء جسمي من تفاوت همتي
ويدل على تفاوت الهمم أن في الناس من يسهر في سماع ولا يسهل عليه السهر في سماع القرآن. والإنسان يحشر ومعه تلك الهمة، فيعطى على مقدار ما حصلت في الدنيا لم تتق إلى الكمال وقنعت بالدون، قنعت في الآخرة بمثل ذلك. ثم إن القوم يتفكرون بعقولهم، فيعلمون أن الجزاء على قدر العمل، ولا يطمع من صلى ركعتين في ثواب من صلى ألفا. فإن قال قائل: فكيف يتصور لها ألا تروم ما ناله من هو أفضل منها؟ قلت: إن لم يتصور نيله يتصور الحزن على فوته. وهل رأيت عاميا يحزن على فوات الفقه حزنا يقلقه؟ هيهات. لو كان ذلك الحزن عنده لحره إلى التشاغل. فليس عندهم همة توجب الأسف مع أنهم قد رضوا بما فيه. فافهم ما قلته وبادر، فهذا ميدان السباق.