→ فصل: السمع والبصر | صيد الخاطر فصل: العشق الإلهي ابن الجوزي |
فصل: دعاء الخاشعين ← |
فصل: العشق الإلهي
نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق وأسبابه وأدويته وصنفت في ذلك كتابا سميته بذم الهوى. وذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا: سبب العشق حركة نفس فارغة، وأنهم اختلفوا. فقال قوم منهم: لا يعرض العشق إلا لظراف الناس. وقال آخرون: بل لأهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق. إلا أنه خطر لي بعد ذلك معنى عجيب أشرحهه ههنا: وهو أنه لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد. فأما أرباب صعود الهمم فإنها كلما تخايلت ما توجبه المحبة فلاحت عيوبه لها، إما بالفكر فيه أو بالمخالطة له، تسلت أنفسهم وتعلقت بمطلوب آخر. فلا يقف على درجة العشق الموجب للتمسك بتلك الصورة، العامي عن عيوبها، إلا جامدا واقفا. وأما أرباب الأنفة من النقائص، فإنهم أبدا في الترقي، لا يصدهم صاد، فإذا علقت الطباع محبة شخص لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر، بل ربما مالوا ميلا شديدا إما في البداية لقلة التفكر أو لقلة المخالطة والاطلاع على العيوب، وإما لتشتت بعض الخلال الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين، كالظريف مع الظريف، والفطن مع الفطن، فيوجب ذلك المحبة. فأما العشق فلا فهم أبدا في السير فلا يوقف وابل الطبع تتبع حادي الفهم، فإن للطبع متعلقا لا تجده في الدنيا، لأنه يروم مالا يصح وجوده من الكمال في الأشخاص، فإذا تلمح عيوبها نفر. وأما متعلق القلوب من محبة الخالق البارئ، فهو مانع لها من الوقوف مع سواء. وإن كانت محبة لا تجانس محبة المخلوقين، غير أن أرباب المعرفة ولهى قد شغلهم حبه عن حب غيره. وصارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب ومحبتها كما قالت رابعة:
أحب حبيبا لا أعاب بحبه وأحببيهم من في هواه عيوب
ولقد روي عن بعض فقراء الزهاد أنه مر بإمرأة فأعجبته، فخطبها إلى أبيها، فزوجه وجاء به إلى المنزل وألبسه غير خلقانه. فلما جن الليل صاح الفقير: ثيابي ثيابي. فقدت ما كنت أجده، فهذه عثرة في طريق هذا الفقير دلته على أنه منحرف عن الجادة. وإنما تعتري هذه الحالات أرباب المعرفة بالله عز وجل وأهل الأنفة من الرذائل. وقد قال ابن مسعود: [ إذا أعجبت أحدكم إمرأة فليتذكر مثانتها ]. ومثال هذه الحال أن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام عن التفكر في تقلبه في الفم وبلعه. ويذهل عند الجماع عن ملاقات القاذورات لقوة غلبة الشهوة، وينسى عند بلع الرضاب إستحالته عن الغذاء، وفي تغطية تلك الأحوال مصالح. إلا أن أرباب اليقظة يعتريهم من غير طلب له في غالب أحوالهم، فينغض لذيذ العيش، ويوجب الأنفة من رذالة الهوى. وعلى قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق، وعلى قدر جمود الذهن يقوى القلق، قال المتنبي:
لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يسببه لم يسبه
ومجموع ما أرادت شرحه، أن طباع المتيقظين تترقى فلا تقف مع شخص مستحسن. وسبب ترقيها التفكر في نقص ذلك الشخص وعيوبه، أو في طلب ما هو أهم منه. وقلوب العارفين تترقى إلى معروفها، فتعبر في معبر الإعتبار. فأما أهل الغفلة فجمودهم في الحالتين، وغفلتهم عن المقامين، يوجب أسرهم وقسرهم وحيرتهم.