→ فصل: في طريق الاستذكار | صيد الخاطر فصل: في العزلة التفكير في زاد الرحيل ابن الجوزي |
فصل: الاستعداد للقاء الموت ← |
فصل: في العزلة التفكير في زاد الرحيل
ما أعرف نفعا كالعزلة عن الخلق خصوصا للعالم والزاهد فإنك لا تكاد ترى إلا شامتا بنكبة أو حسودا على نعمة، ومن يأخذ عليك غلطاتك. فيا للعزلة ما الذها، سلمت من كدر غيبة، وآفات تصنع، وأحوال المداجاة وتضييع الوقت. ثم خلا فيها القلب بالفكر، لأنه مستلذ عنه بالمخالطة فدبر أمر دنياه وآخرته. فمثله كمثل الحمية يخلو فيها المعي بالأخلاط فيذيبها. وما رأيت مثل ما يصنع المخالط، لأنه يرى حالته الحاضرة من لقاء الناس وكلامهم فيشتغل بها عما بين يديه. فمثله كمثل رجل يريد سفرا قد أزف، فجالس أقواما فشغلوه بالحديث حتى ضرب البوق وما تزود. فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل والسلامة من شر المخالطة كفى. ثم لا عزلة على الحقيقة إلا للعالم والزاهد، فإنهما يعلمان مقصود العزلة وإن كانا لا في عزلة. أما العالم فعلمه مؤنسه، وكتبه محدثه، والنظر في سير السلف مقومه، والتفكير في حوادث الزمان السابق فرجته. فإن ترقى بعلمه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه، وتشبث بأذيال محبته، تضاعفت لذاته، واشتغل بها عن الأكوان وما فيها. فخلا بحبيبه، وعمل معه بمقتضى علمه. وكذلك الزاهد، تعبده أنيسه، ومعبوده جليسه، فإن كشف لبصره عن المعمول معه غاب عن الخلق، وغابوا عنه. إنما اعتزلا ما يؤذي. فهما في الوحدة بين جماعة. فهذان رجلان قد سلما من شر الخلق، وسلم الخلق من شرورهما. بل هما قدوة للمتعبدين، وعلم للسالكين. ينتفع بكلامهما السامع، وتجري موعظتهما المدافع، وتنتشر هيبتها في المجامع. فمن أراد أن يشتبه بأحدهما فليصابر الخلوة وإن كرهها، ليثمر له العسل. وأعوذ با الله من عالم مخالط للعالم، خصوصا لأرباب المال والسلاطين، يجتلب ويجتلب ويختلب، فما يحصل له شيء من الدنيا إلا وقد ذهب من دينه أمثاله. ثم أين الأنفة من الذل للفساق؟ فالذي لا يبالي بذلك هو الذي لا يذوق طعم العلم ولا يدري ما المراد به، وكأنه به وقد وقع في بادية جرز، وقفر مهلك في تلك البراري. وكذلك المتزهد إذا خالط وخلط، فإنه يخرج إلى الرياء والتصنع والنفاق فيفوته الحظان، لا الدنيا ونعيمها تحصل له ولا الآخرة. فنسأل الله عز وجل خلوة حلوة، وعزلة عن البشر لذيذة يستصلحنا فيها لمناجاته، ويلهم كلا منا طلب نجاته. إنه قريب مجيب.