→ فصل: العقل منحة من الله | صيد الخاطر فصل: وعظ السلطان ومراعاة الأحوال ابن الجوزي |
فصل: فيمن ادعوا النبوة ومن ادعوا الكرامات ← |
فصل: وعظ السلطان ومراعاة الأحوال
ينبغي لمن وعظ سلطانا أن يبالغ في التلطيف، ولا يواجهه بما يقتضي أنه ظالم. فإن السلاطين حظهم التفرد بالقهر والغلبة، فإذا جرى نوع توبيخ لهم كان إذلالا، وهم لا يحتملون ذلك. وإما ينبغي أن يمزج وعظه بذكر شرف الولاية، حصول الثواب في رعاية الرعايا، وذكر سير العادلين من أسلافهم. ثم لينظر الواعظ في حال الموعوظ قبل وعظه. فإن كانت سيرته حميدة كما كان منصور بن عمار وغيره يعظون الرشيد وهو يبكي، وذكر وقصده الخير، زاد في وعظه ووصيته. وإن رآه ظالما لا يلتفت إلى الخير، وقد غلب عليه الجهل، اجتهد في ألا يراه، ولا يعظه. لأنه إن وعظه خاطر بنفسه، وإن مدحه كان مداهنا. فإن اضطر إلى موعظته كانت كالإشارة، وقد كان أقوام من السلاطين يلينون عند الموعظة، ويحتملون الواعظين. حتى أنه قد كان المنصور يواجه بأنك ظالم فيصبر. وقد تغير الزمان، وفسد أكثر الولاة، وداهنهم العلماء، ومن لا يداهن لا يجد قبولا للصواب، فيسكت. وقد كانت الولايات لا يسألها إلا من أحكمته العلوم، وثقته التجارب، فصار أكثر الولاة يتساوون في الجهل، فتأتي الولاية على من ليس من أهلها. ومثل هؤلاء ينبغي الحذر منهم، والبعد عنهم. فمن ابتلى بوعظهم فليكن على غاية التحرز فيما يقول، ولا ينبغي أن يغتر بقولهم: عظنا. فإنه لو قال كلمة لا توافق أغراضهم ثارت حراراتهم. وليحذر مذكر السلطان أن يعرض له بأرباب الولايات، فإنهم إذا سمعوا بذلك صار الواعظ مقصودا لهم بالإهلاك، خوفا من أن يعتبر السلطان أحوالهم فتفسد أمورهم. والبعد في هذا الزمان عنهم أصلح، والسكوت عن المواعظ لهم أسلم. فمن اضطر تلطف غاية التلطيف، جعل وعظه للعوام وهم يسمعون ولا يعنيهم منه بشيء. والله الموفق.