→ فصل: الصدق في القلب | صيد الخاطر فصل: في فضل العالم والعامل ابن الجوزي |
فصل: لا نأمن مكر الله ← |
فصل: في فضل العالم والعامل
لقيت مشايخ، أحوالهم مختلفة، في مقادير في العلم. وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه. ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة، ويسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه وإن وقع خطأ. ولقيت عبد الوهاب الأنماطي، فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة،و لا كان يطلب أجرا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقاق بكى واتصل بكاؤه. فكان ـ وأنا صغير السن حينئذ ـ يعمل بكاؤه في قلبي،و يبني قواعد. وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل. ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقنا محققا. وربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن. وكان كثير الصوم والصمت. فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما. ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول. ورأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط ومزاح، فراحوا عن القلوب وبدد تفريطهم ما جمعوا من العلم. فقل الانتفاع بهم في حياتهم، ونسوا بعد مماتهم، فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم. فالله الله في العلم بالعمل، فإنه الأصل الأكبر. والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاته لذات الدنيا وخيرات الآخرة فقدم مفلسا على قوة الحجة عليه.