→ فصل: إن ربك لبالمرصاد | صيد الخاطر فصل: اليد العليا خير من اليد السفلى ابن الجوزي |
فصل: التفكر في خلق الله ← |
فصل: اليد العليا خير من اليد السفلى
إجتهاد العاقل فيما يصلحه لازم له بمقتضى العقل والشرع. فمن ذلك حفظ ماله، وطلب تنميته، والرغبة في زيادته لأن سبب بقاء الإنسان ماله فقد نهى عن التبذير فيه، فقيل له: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم فأعلم أنه سبب لبقائه التي جعل الله لكم قياما أي أقواما لمعاشكم. وقال عز وجل: ولا تبسطها كل البسط. وقال تعالى: ولا تبذر تبذيرا وقال تعالى: لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما. ومن فضيلة المال أن الله تعالى قال: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا وقال تعالى: وأنفقوا في سبيل الله. وقال تعالى: ينفقون أموالهم. وقال تعالى: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح. وجعل المال نعمة. وزكاته تطهيرا. فقال تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها. وقال ﷺ نعم المال الصالح للرجل الصالح. وقال: ما نفعني مال كمال أبي بكر. وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى التجارة، ويترك رسول الله ﷺ، فلا ينهاه عن ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ لأن أموت بين شعبتي جبل أطلب كفاف وجهي أحب إلي من أن أموت غازيا في سبيل الله ]. وكان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يتاجرون. ومن سادات التابعين سعيد بن المسيب، مات وخلف مالا، وكان يحتكر الزيت. وما زال السلف على هذا. ثم قد تعرض نوائب كالمرض يحتاج فيها إلى شيء من المال فلا يجد الإنسان بدا من الإحتيال في طلبه، فيبذل عرضه أو دينه. ثم للنفس قوة بدنية عند وجود المال، وهو معدود عند االأطباء من الأدوية. حكمة وضعها الواضع. ثم نبغ أقوام طلبوا طريق الراحة فادعوا أنهم متوكلة وقالوا: نحن لا نمسك شيئا، ولا نتزود لسفر، ورزق الأبدان يأتي. وهذا على مضادة الشرع، فإن رسول الله ﷺ نهى عن إضاعة المال. وموسى عليه السلام لما سافر في طلب الخضر تزود. ونبينا ﷺ لما هاجر تزود. وأبلغ من هذا قوله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. ثم يدعي هؤلاء المتصوفة بغض الدنيا، فلا يفهمون ما الذي ينبغي أن يبغض. ويرون زيادة الطلب للمال حرصا وشرها. وفي الجملة إنما إخترعوا بأرائهم طريقا فيها شيء من الرهبانية إذا صدقوا وشيء من البهرجة إذا نصبوا شبك الصيد بالتزهد، فسموا ما يصل إليهم من الأرزاق فتوحا. قال ابن قتيبة في غريب الحديث عند شرح وقوله ﷺ: واليد العليا قال: هي المعطية. قال: فالمعجب عندي من قوم يقولون هي الأخذة. ولا أرى هؤلاء القوم إستطابوا السؤال، فهم يحتجون للدناءة، فأما الشرائع فإنها بريئة من حالهم. وفي الحديث: ضاق البلد بمواشي إبراهيم ولوط عليهما السلام فافترقا. وكان شعيب عليه السلام كثير المال ثم قد ند طعمه في زيادة الأجر من موسى عليه السلام فقال: فإن أتممت عشرا فمن عندك. وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: [ من قال إني لا أحب الدنيا فهو كذاب ]. فإن يعقوب عليه السلام لما طلب منه ابنه يامين قال: هل آمنكم عليه. فقالوا: ونزداد كيل بعير. فقال: خذوه. وقال بعض السلف: [ من ادعى بغض الدنيا فهو عندي كذاب إلى أن يثبت صدقه، فإذا ثبت صدقه فهو مجنون ]. وقد نفر جماعة من المتصوفة خلقا من الخلق عن الكسب، وأوحشوا بينهم وبينه، وهو دأب الأنبياء والصالحين. وإنما طلبوا طريق الراحة وجلسوا على الفتوح، فإذا شبعوا رقصوا، فإذا إنهضم الطعام أكلوا فإذا لاحت لهم حيلة على غني أوجبوا عليه دعوة، إما بسبب شكر أو بسبب إستغفار. وأطم الطامات إدعاؤهم أن هذا قربة. وقد إنعقد إجتماع العلماء أن من إدعى الرقص قربه إلى الله تعالى كفر. فلو أنهم قالوا: مباح كان أقرب حالا، وهذا لأن القرب لا تعرف إلا بالشرع، وليس في الشرع أمر بالرقص ولا ندب إليه. ولقد بلغني عن جماعة منهم أنهم كانوا يوقدون الشمع في وجوه المردان وينظرون إليهم فإذا سئلوا عن ذلك سخروا بالسائل فقالوا: نعتبر بخلق الله... أفتراهم أقوى من النبي ﷺ حين أجلس الشاب الذي وفد عليه من وراء ظهره، وقال هل كانت فتنة داود إلا من النظر. هيهات. لقد تملك الشيطان تلك الأزمة فقادها إلى ما أراد. والعجب ممن يذم الدنيا وهو يأكل فيشبع، ولا ينظر من أين المطعم. وما زال صالحو السلف يفتشون عن المطعم حتى كان إبراهيم بن أدهم يسهر هو وأصحابه ويقولون مع من نعمل غدا؟ وكان سري السقطي يعرف بطيب الغذاء، وله في الورع مقامات، فجاء قوم يتسمون بالصوفية يدعون إيباع أولئك السادة، ويأكلون من مال فلان، وهم يعرفون أصول تلك الأموال، ويقولون: رزقنا. فواعجبا إذا كان الآكل لا يبالي به من أين ولا لديه إمتناع من شهوة ولا تقلل، ولا يخلو الرباط من المطبخ، ولا ينقطع ليلة، وأصله من مال قد عرف من أين هو، والحمام دائر، والمعنى يدق بدف فيه جلاجل، ورفيقه بالشبابة، وسعدي وليلي في الإنشاد، والمردان في السمع، ثم يذم الدنيا بعد هذا. فقولوا لنا: من يتلهى بالناس إلا هؤلاء؟ ولكن من مرت عليه رزجنتهم فإنه أخس منهم.