→ فصل: عيش الصديقين | صيد الخاطر فصل: من أعمل عقله سلم ابن الجوزي |
فصل: في مخالطة الأمراء ← |
فصل: من أعمل عقله سلم
نظرت في حكمة المطعم والمشرب والملبس والمنكح، فرأيت أن الآدمي لما خلق من أصول تتحلل، وهي الماء، والتراب، والهواء. وبقاؤه إنما يكون بالحارة والرطوبة [ والحرارة تحلل الرطوبة دائما ] فلم يكن له بد من شيء يخلف ما بطل. ولما كان اللحم لا ينوب عنه إلا اللحم، أباح الشرع ذبح الحيوان، ليتقوى به من هو أشرف منه. ولما كان بدنه يحتاج إلى كسوة، وله قدرة تمييز، وقدرة يصنع بها ما يقيه الأذى من القطن والصوف، لم يجعل على جلده ما يقيه خلقه، بخلاف الحيوان البهيم، فإنه لما لم يكن له قدرة على ما يغطى جلده، عوضه بالريش والشعر والوبر. ولما لم يكن بد من فناء الآدمي والحيوان، هيج شهوة الجماع لتخلف النسل. فمقتضى العقل الذي حرك على طلب هذه المصالح أن يكون التناول للمطعم والمشرب مقدار الحاجة والمصلحة، ليقع الالتذاذ بالعافية. ومن البلية طلب الإلتذاذ بالمطعم وإن كان غير صالح والشره في تناوله، وكذلك الكسوة والنكاح. ومن الحزم جمع المال وإدخاره لعارض حاجة من ذلك. ومن التغفيل إنفاق الحاصل، فربما عرضت حاجة فلم يقدر عليها فأثر عدمها في البدن أو في العرض بطلبها من الأنذال. ومن أقبح الأمور الإنهماك في النكاح طلبا لصورة اللذة، ناسيا ما يجني ذلك من انحلال القوة، ويزيد في الحرام بالعقوبة. فمن مال إلى تدبير العقل سلم في دنياه وآخرته. ومن أعرض عن مشاورته أو عن القبول منه عجل عطبه. فليفهم مقصود الموضوعات وحكمها بالمراد منها، فمن لم يفهم ولم يعمل بمقتضى ما فهم كان كأجهل العوام، وإن كان عالما.