→ فصل: مغالطة النفس ليتم العيش | صيد الخاطر فصل: بين الإسراف والاعتدال ابن الجوزي |
فصل: النظر في العاقبة ← |
فصل: بين الإسراف والاعتدال
قوام الآدمي بشيئين: الحرارة، والرطوبة. ومن شأن الحرارة أن تحلل الرطوبة وتفنيها، فلأدمي محتاج إلى تحصيل خلف المتحلل. فأبدان النشئ تغتدي بأكثر مما يتحلل منها. والأبدان المتناهية تغتذي بمقدار ما يتحلل منها، والأبدان التي قد أخذت في الهرم يتحلل منها أكثر مما تغتذي به، فينبغي للناشئ البالغ أن يتحفظ في النكاح، لأنه يربي قاعدة قوة يجد أثرها في الكبر. وأما المتوسط والواقف فينبغي أن يحذر فضول الجماع، فإن حصل له مثل ما يخرج منه فأسرف، فاللازم أخذ من الحاصل، ويوشك أن يسرع النفاد. وأما الشيخ فترك النكاح كاللازم له، خصوصا إذا زاد علو السن، لأنه ينفق من الجوهر الذي لا يحصل مثله أبدا. ثم ينبغي أن ينظر العاقل في ماله فيكتسب أكثر مما ينفق ليكون الفاضل مدخرا لوقت العجز. وليحذر السرف، فإن العدل هو الأصلح. ثم ينظر الزوجة، والمطلوب منها شيئان: وجود الولد، وتدبير المنزل، فإذا كانت مبذرة فعيب لا يحتمل، فإن إنضمت صفة العقر، فلا وجه للإمساك. إلا أن تكون مستحسنة الصورة، فإن ضم إليها عقل وعفاف، حسن الإمساك. وإن كان مما يحتاج أن تحفظ فتركها لازم. فأما الخدم فليجتهد في تحصيل خادم لا تستعبده الشهوة، فإن عبد الشهوة له مولى غير سيده. ولينظر المالك في طبع المملوك، فمنهم من لا يأتي إلا على الإكرام فليكرمه، فإنه يربح محبته. ومنهم من لا يأتي إلا على الإهانة فليداره وليعرض عن الذنوب. فإن لم يمكن عاتب بلطف، وليحذر العقوبة ما أمكن، وليجعل للماليك زمن راحة. والعجب ممن يعنى بدابته وينسى مداراة جاريته، وأجود الممالك الصغار وكذلك الزوجات، لأنهم متعودون خلق المشتري. وليحفظ نفسه بالهيبة من الانحراف مع الزوجة، ولا يطلعها على ماله، فإنها سفيهة تطلب كثرة الإنفاق. وأما تدبير الأولاد فحفظهم من مخالطة تفسد. ومتى كان الصبي ذا أنفة ـ حييا ـ رجي خيره. وليحمل على صحبة الأشراف والعلماء، وليحذر من مصاحبته الجهال والسفهاء، فإن الطبع لص. وليحذر الصبي من الكذب غاية التحذير، ومن المخالطة للصبيان، وليوصه بزيادة البر للوالدين، وليحفظ من مخالطة النساء. فإذا بلغ فليزوج بصبيه فينتفعان. هذه الإشارة إلى تدبير أمور الدنيا. فأما تدبير العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن والفقه وسماع الحديث. وليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات، لأن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة، فإذا بلغ تشتت همته، فليضرب تارة، ويرشي أخرى، ليبلغ وقد حصل محفوظات سنية. وأول ما ينبغي أن يكلف حفظ القرآن متقنا، فإنه يثبت ويختلط باللحم والدم، ثم مقدمة من النحو يعرف بها اللحن، ثم الفقه مذهبا وخلافا، وما أمكن بعد هذا من العلوم فحفظه حسن. وليحذر من عادات أصحاب الحديث. فإنهم يفنون الزمان في سماع الأجزاء التي تتكرر فيها الأحاديث، فيذهب العمر وما حصلوا فهم شيء. فإذا بالغوا سنا طلبوا جواز فتوى، أو قراءة جزء من القرآن، فعادوا القهقرى. لأنهم يحفظون بعد كبر السن، فلا يحصل مقصودهم، فالحفظ في الصبا للمهم من العلم، أصل عظيم. وقد رأينا كثيرا ممن تشاغل بالمسموعات وكتابة الأجزاء ورأى الحفظ صعبا، فمال إلى الأسهل فمضى عمره في ذلك. فلما احتاج إلى نفسه، قعد يتحفظ على كبر، فلم يحصل مقصوده. فاليقظة لفهم ما ذكرت، وانظر في الإخلاص، فما ينفع شيء دونه.