→ فصل: الله يغفر للجاهل قبل العالم | صيد الخاطر فصل: وإن الآخرة هي دار القرار ابن الجوزي |
فصل: الدنيا لم تخلق للتنعيم ← |
فصل: وإن الآخرة هي دار القرار
سبب تنغيص العيش فوات الحظوظ العاجلة. وليس في الدنيا طيب عيش على الدوام إلا للعارف الذي شغله رضى حبيبه والتزود للرحيل إليه. فإنه إن وجد راحة في الدنيا استعان بها على طلب الآخرة. وإن وجد شدة اغتنم الصبر عليها لثواب الآخرة، فهو راض بكل ما يجري عليه. يرى ذلك من قضاء الخالق، ويعلم أنه مراده، كما قال قائلهم:
إن كان رضاكم في سهري فسلام الله على وسني
فأما من طلب حظه فإنه يقلق لفوات مراده، ويتنغص لبعد ما يشتهي. فلو إفتقر تغير قلبه، ولو ذلك تغير، وهذا لأنه قائم مع غرضه وهواه. وما أحسن قول الحصري: إيش علي مني، وإيش لي في؟ وهذا كلام عارف، لأنه إن كان ينظر إلى حقيقة الملكية، فعبد يتصرف فيه مولاه. فاعتراضه لا وجه له، وإرادته أن يقع ما يجب فضول في البين. وإن نظر أن النفس كالملك له فقد خرجت عن يده من يوم إن الله اشترى. أفيحسن لمن باع شاة أن يغضب على المشتري إذا ذبحها أو يتغير قلبه؟ والله لو قال المالك سبحانه: إنما خلقتكم ليستدل على وجودي، ثم أنا أفنيكم ولا إعادة. لكان يجب على النفوس العارفة به أن تقول سمعا لما قلت وطاعة. وأي شيء لنا فينا حتى نتكلم. فكيف وقد وعد بالأجر الجزيل، والخلود في النعيم، الذي لا ينفد. لكن طريق الوصول تحتاج إلى صبر على المشقة وما يبقى لتعب رمل زرود أثر إذا لاح الحرم. فالصبر الصبر يا أقدام المبتدئين، لاح المنزل. والسرور يا متوسطين، ضرب الخيم. والفرح الكامل يا عارفين، قد تلقيتم بالبشائر. زالت والله أثقال المعاملات عنكم، فكانت معرفتكم بالمبتلي حلاوة أعقبت شربة المجاهدة، فلم يبق في الفم للمر أثر. تخايلوا قرب المناجاة ولذة الحضور. ودوار كؤوس الرضى عنكم فقد أخذت شمس الدنيا في الأفوال:
ما بيننا له إلا تصر م هذه السبع البواقي
حتى يطول حديثنا بصنوف ما كنا نلاقي