→ فصل: إذعان العقل فحكمة الله | صيد الخاطر فصل: تخيروا لنطفكم ابن الجوزي |
فصل: لماذا تكثر الحسنات والسيئات ← |
فصل: تخيروا لنطفكم
تأملت في فوائدالنكاح ومعانيه وموضوعه، فرأيت أن الأصل الأكب في وضعه وجود النسل، لأن الحيوان لايزال يتحلل، ثم يختلف من المتحلل الغذاء، ثم يتحلل من الأجزاء الأصلية ما لا يخلفه شيء، فإذا لم يكن بد من فنائه، وكان المراد امتداد أزمان الدنيا جعل النسل خلفا عن الأصل. ولما كانت صورة النكاح تأباها النفوس الشريفة من كشف العورة وملا قاة ما لا يستحسن لنفسه، جعلت الشهور تحث عليه ليحصل المقصود. ثم رأيت هذا المقصود الأصلي يتبعه شيء آخر، وهو استفراغ هذا الماء الذي يؤذي دوام احتقانه. فإن المني ينفصل من الهضم الرابع، فهو من أصفى جوهر الغذاء وأجوده، ثم يجتمع، فهو أحد الذخائر للنفس فإنها تدخر ـ لبقائها وقوتها ـ الدم ثم المني، ثم تدخر التفل الذي هو من أعمدة البدن كأنه لخوف عدم غيره. فإذا زاد اجتماع المني أقلق على نحو الإقلاق البول للحاقن، إلا أن إقلاقه من حيث المعنى أكثر من إقلاق البول من حيث الصورة، فتوجب كثرة اجتماعه، وطول احتباسه، أمراضا صعبة، لأنه يترقى من بخاره إلى الدماغ فيؤذي، وربما أحدث سمية. ومتى كان المزاح سليما فالطبع يطلب بروز المني إذا اجتمع كما يطلب بروز البول، وقد ينحرف بعض الأمزجة، فيقل اجتماعه عنده فيندر طلبه لإخراجه، وإنما نتكلم عن المزاج الصحيح، فأقول: قد بينت أنه إذا وقع به احتباسه أوجب أمراضا وجدد أفكارا رديئة، وجلب العشق والوسوسة إلى غير ذلك من الآفات. وقد نجد صحيح المزاج يخرج ذلك إذا اجتمع وهو بعد متقلقل، فكأنه الأكل الذي لا يشبع. فبحثت عن ذلك فرأيته وقوع الخلل في المنكوح، إما لدمامته، وقبح منظره، أو لآفة فيه، أو لأنه غير مطلوب للنفس، فحينئذ يخرج منه ويبقى بعضه. فإذا أردت معرفة ما يدلك على ذلك، فقس مقدار خروج المني في المحل المشتهى. وفي المحل الذي هو دونه، كالوطء بين الفخذين بالإضافة إلى الوطء في محل النكاح، وكوطء البكر بالإضافة إلى وطء الثيب. فعلم حينئذ أن تخير المنكوح يستقضي فضول المني، فيحصل للنفس كمال اللذة، لموضع كمال بروز الفضول. ثم قد يؤثر هذا في الولد أيضا، فإنه إذا كان من شابين قد حبسا أنفسهما عن النكاح مدة مديدة كان الولد أقوى منه من غيرهما، أو من المدمن على النكاح في الأغلب. ولهذا كره نكاح الأقارب، لأنه مما يقبض النفس عن انبساطها، فيتخيل الإنسان أنه ينكح بعضه، ومدح نكاح الغرائب لهذا المعنى. ومن هذا الفن يحصل كثير من المقصود من دفع هذه الفضول المؤذية بمنكوح مستجد، وإن كان مستقبح الصورة ما لا يحصل به في العادة. ومثال هذا أن الطاعم إذا سلأ خبزا ولحما حيث لم يبق فيه فضل لتناول لقمة، قدمت إليه الحلوى فيتناول، فلو قدم أعجب منها لتناول، لأن، الجدة لها معنى عجيب، وذلك أن النفس لا تميل إلى ما ألفت، وتطلب غير ما عرفت، ويتخايل لها في الجديد نوع مراد. فإذا لم تجد مرادها صدفت إلى جديد آخر، فكأنها قد علمت وجود غرض تام بلا كدر، وهي تتخايله فيما تراه. وفي هذا المعنى دليل مدفون على البعث، لأن في خلق همته متعلقة بلا متعلق نوع عبث. فافهم هذا. فإذا رأت النفس عيوب ما خالطت في الدنيا عادت تطلب جديدا. ولذلك قال الحكماء: العشق، العمى عن عيوب المحبوب، فمن تأمل عيوبه سلا. ولذلك يستحب للمرآة ألا تبعد عن زوجها بعدا تنسيه إياها، ولا تقرب منه قربا يملها معه، وكذلك يستحب ذلك له، لئلا يملها أو تظهر لديه مكنونات عيوبها. وينبغي له ألا يطلع منه على عورة، ويجتهد في ألا يشم منها إلا طيب ريح، إلى غير ذلك من الخصال التي تستعملها النساء الحكيمات، فإنهن يعلمن ذلك بفطرهن من غير احتياج إلى تعليم. فأما الجاهلات فإنهن لا ينظرن في هذا فيتعجل التفات الأزواج عنهن. فمن أراد نجابة الولد وقضاء الوطر فليتخير المنكوح، إن كان زوجة فلينظر إليها، فإذا وقعت في نفسه فليتزوجها، ولينظر في كيفية وقوعها في نفسه، فإن علامة تعلق حبها بالقلب ألا يصرف الطرف عنه، فإذا انصرف الطرف قلق القلب بتقاضي النظرة، فهذا الغاية. ودونه مراتب على مقاديرها يكون بلوغ الأغراض وإن كان جارية تشترى فلينظر إليها أبلغ من ذلك النظر ومن قدر مناطقة المرآة أو مكالمتها بما يوجب التنبيه، ثم ليرى ذلك منها، فإن الحسن في الفم والعينيين. وقد نص أحمد: على جواز أن يبصر الرجل من المرآة التي يريد نكاحها ما هو عورة، يشير إلى ما يزيد على الوجه. ومن أمكنه أن يؤخر العقد أو شراء الجارية لينظر كيف توقان قلبه، فإنه لا يخفى على العاقل توقان النفس لأجل المستجد وتوقانها لأجل الحب فإذا رأى قلق الحب أقدم. فإنه قد أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا عبد الجبار بن أبي عامر قال: حدثني أبي قال: حدثني خالد بن سلام قال: حدثنا عطاء الخرساني قال [ مكتوب في التوراة: كل تزويج على غير هوى حسرة وندامة إلى يوم القيامة ]. ثم ينبغي للمتخير أن يتفرس في الأخلاق فإنها من الخفي، وإن الصورة إذا خلت من المعنى كانت كخضراء الدمن. ونجابة الولد مقصودة، وفراغ النفس من الاهتمام بما حصلت من الرغبات أصل عظيم، يوجب إقبال القلب على المهمات. ومن فرغ من المهمات العارضة أقبل على المهمات الأصلية. ولهذا جاء في الحديث: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان. وإذا وضع العشاء وحضرت العشاء فابدءوا بالعشاء. فمن قدر على امرآة صالحة في الصورة والمعنى فليغمض عن عوراتها، ولتجتهد هي في مراضية من غير قرب يمل، ولا بعد ينسى. ولتقدم على التصنع، له يحصل الغرضان منها، وقضاء الوطر. ومع الإحتراز الذي أوصيت به، تدوم الصحبة، ويحصل الغناء بها عن غيرها. فإن قدر على الإستكثار فأضاف إليها سواها عالما أنه بذلك يبلغ الغرض الذي يفرغ قلبه زيادة تفريغ كان أفضل لحاله. فإن خاف من وجود الغيرة ما يشغل القلب الذي قد اهتممنا بجمع همته، أو خاف وجود مستحسنة تشغل قلبه عن ذكر الآخرة، أو تطلب منه ما يوجب خروجه عن الورع، فحسبه واحدة. ويدخل فيما أوصيت به أنه يبعد في المستحسنات العفاف. فليبالغ الواجد لهن في حفظهن وسترهن. فأن وجد ما لا يرضيه عجل الاستبدال، فإنه سبب السلو، وإن قدر على الاقتصار فإن الاقتصار على الواحدة أولى، فإن كانت على الغرض قنع، وإن لم تكن استبدل، ونكاح المرأة المحبوبة يفرغ الماء المجتمع، فيوجب نجابة الولد وتمامه، وقضاء الوطر بكماله. ومن خاف وجود الغيرة فعليه بالسراري، فإنهن أقل غيرة، والاستظراف لهن أمكن من استظراف الزوجات. وقد كان جماعة يمكنهم الجمع، وكان النساء يصبرن، فكان لداود عليه الصلاة والسلام مائة امرأة، ولسليمان عليه الصلاة والسلام ألف امرأة، وقد علم حال نبينا ﷺ وأصحابه، وكان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه أربع حرائر، وسبع عشرة سرية، وتزوج ابنه الحسن رضي الله عنه بنحو من أربعمائة، إلى غير هذا مما يطول ذكره. فافهم ما أشرت إليه، تفز به إن شاء الله تعالى.