→ فصل: دع التصنع في الوعظ | صيد الخاطر فصل: احذر من مزالق علم الكلام ابن الجوزي |
فصل: السمع والبصر ← |
فصل: احذر من مزالق علم الكلام
من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين، والنفاة للصفات والإضافات فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالغوا في الإثبات ليتقرر في أنفس العوام وجود الخالق، فإن النفوس تأنس بالإثبات، فإذا سمع العامي ما يوجب النفي، طرد عن قلبه الإثبات، فكأن أعظم ضرر عليه، وكان هذا المنزه من العلماء على زعمه، مقاما لإثبات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالمحو وشارعا في إبطال ما يفتون به. وبيان هذا أن الله تعالى أخبر باستوائه على العرش، فأنست النفوس إلى إثبات الإله ووجوده، قال تعالى: ويبقى وجه ربك وقال تعالى: بل يداه مبسوطتان وقال غضب الله عليهم رضي الله عنهم وأخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا، وقال: [ قلوب العباد بين أصبعين، ] وقال: كتب التوراة بيده، وكتب كتابا فهو عنده فوق العرش، إلى غير ذلك مما يطول ذكره. فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات، وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس، قيل له: ليس كمثله شيء فمحا من قلبه ما نقشه الخيال، وتبقى ألفاظ الإثبات متمكنة. ولهذا أقر الشرع مثل هذا، فسمع منشدا يقول: وفوق العرش رب العالمين، فضحك. وقال له آخر: أو يضحك ربنا؟ فقال: نعم. وقال: إنه على عرشه هكذا. كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس. وأكثر الخلق لا يعرفون الإثبات إلا على ما يعلمون من الشاهد، فيقنع منهم بذلك إلى أن يفهموا التنزيه. فأما إذا ابتدئ بالعامي الفارغ من فهم الإثبات، فقلنا: ليس في السماء ولا على العرش، ولا يوصف بيد، وكلامه صفة قائمة بذاته، وليس عندنا منه شيء، ولا يتصور نزوله، انمحى من قلبه تعظيم المصحف، ولم يتحقق في سره إثبات إله. هذه جناية عظيمة على الأنبياء، توجب نقض ما تعبوا في بيانه، ولا يجوز لعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيهوشها، فإنه يفسده ويصعب صلاحه. فأما العالم فإنا قد أمناه لأنه لا يخفي عليه استحالة تجدد صفة الله تعالى، وأنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم، ولا يجوز أن يكون محمولا، ولا يوصف بملاصقة ومس، ولا أن ينتقل. لا يخفي عليه أن المراد بتقليب القلوب بين أصبعين الإعلام بالتحكم في القلوب فإن ما يديره الإنسان بين أصبعين هو متحكم فيه إلى الغاية. ولا يحتاج إلى تأويل من قال: الإصبع الأثر الحسن، فالقلوب بين أثرين من آثار الربوبية، وهما: الإقامة، والإزاغة. ولا إلى تأويل من قال: يداه نعمتاه، لأنه إذا فهم أن المقصود الإثبات وقد حدثنا بما نعقل، وضربت لنا الأمثال بما نعلم، وقد ثبت عندنا بالأصل المقطوع به أنه لا يجوز عليه ما يعرفه الحس، علمنا المقصود بذكر ذلك. وأصلح ما نقول للعوام: أمروا هذه الأشياء كما جاءت، ولا تتعرضوا لتأويلها، بل ذلك يقصد به حفظ الإثبات، وهذا الذي قصده السلف. وكان أحمد يمنع من أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، كل ذلك ليحمل على الأتباع، وتبقى ألفاظ الإثبات على حالها. وأجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي ﷺ تعظيمه، فأضعف في النفوس قوى التعظيم. قال النبي ﷺ: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ـ يشير إلى المصحف ـ. ومنع الشافعي أن يحمله المحدث بعلاقته تعظيما له. فإذا جاء متحذلق فقال: الكلام صفة قائمة بذات المتكلم فمعنى قوله هذا أن ما ههنا شيء يحترم، فهذا قد ضاد بما أتى به مقصود الشرع. ينبغي أنم يفهم أوضاع الشعر ومقاصد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد منعوا من كشف ما قد قنع الشرع، فنهى رسول الله ﷺ عن الكلام في القدر ونهى عن الإختلاف، لأن هذه الأشياء تخرج إلى ما يؤذي فإن الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى أن يقول: قضى وعاقب، تزلزل إيمانه بالعدل. وإن قال: لم يقدر ولم يقض. تزلزل بالقدرة، والملك، فكان الأولى ترك الخوض في هذه الأشياء. ولعل قائلا يقول: هذا منع لنا عن الإطلاع على الحقائق، وأمر بالوقوف مع التقليد. فأقول: لا، إنما أعلمك أن المراد منك الإيمان بالجمل، وما أمرت بالتنقير مع أن قوى فهمك تعجز عن إدراك الحقائق. فإن الخليل عليه الصلاة والسلام قال: أرني كيف تحي، فأراه ميتا حي ولم يره كيف أحياه، لأن قواه تعجز عن إدراك ذلك. وقد كان النبي ﷺ وهو الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم، يقنع من الناس بنفس الإقرار واعتقاد الجمل. كذلك كانت الصحابة، فما نقل عنهم إنهم تكلموا في تلاوة ومتلو، وقراءة ومقروء، ولا إنهم قالوا استوى بمعنى استولى، ويتنزل بمعنى يرحم. بل قنعوا بإثبات الجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس، وكفوا كف الخيال بقوله: ليس كمثله شيء. ثم هذا منكر ونكير إنما يسألان عن الأصول المجملة فيقولان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟. ومن فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسمة، وتعطيل العطلة، ووقف علىجادة السلف الأول، والله الموفق.