→ فصل: الخوف من الله | صيد الخاطر فصل: شبهة في عدد الأحاديث والرد عليها ابن الجوزي |
فصل: في الفرق بين اللغة والنحو ← |
فصل: شبهة في عدد الأحاديث والرد عليها
جرى بيني وبين أحد أصحاب الحديث كلام في قول الإمام أحمد: صح من الحديث عن رسول الله ﷺ، سبع مائة ألف حديث. فقلت له: إنما يعني به الطرق، فقال: لا، بل المتون، فقلت: هذا بعيد التصور. ثم رأيت لأبي عبد الله الحاكم كلاما ينصر ما قال ذلك الشخص، وهو أنه قال في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل: كيف يجوز أن يقال: إن حديث رسول الله ﷺ لا يبلغ عشرة آلاف حديث، وقد روى عنه من أصحابه أربعة آلاف رجل وامرأة، صحبوه نيفا وعشرين سنة بمكة ثم بالمدينة، حفظوا أقواله وأفعاله، ونومه ويقظته وحركاته وغير ذلك، سوى ما حفظوا من أحكام الشريعة. واحتج بقول أحمد: صح من الحديث عن رسول الله ﷺ سبع مائة ألف حديث وكسر، وأن إسحاق بن راهوية كان يملي سبعين ألف حديث حفظا، وأن أبا العباس بن عقدة قال: أحفظ لأهل البيت ثلاث مائة ألف حديث. قال ابن عقدة: وظهر لابن كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث. قلت: ولا يحسن أن يشار بهذا إلى المتون وقد عجبت كيف خفى هذا على الحاكم وهو يعلم أن أجمع المسانيد الظاهرة مسند أحمد بن حنبل، وقد طاف الدنيا مرتين حتى حصله وهو أربعون ألف حديث، منها عشرة آلاف مكررة. قال حنبل بن إسحاق: جمعنا أحمد بن حنبل أنا وصالح وعبد الله، وقرأ علينا المسند، وقال لنا: هذا كتاب جمعته من أكثر من سبع مائة ألف وخمسين ألفا. فما إختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله ﷺ فارجعوا إليه، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة. أفترى يخفى على متيقظ أنه أراد بكونه جمعه من سبعمائة ألف أنه أراد الطرق. لأن السبع مائة الألف، إن كانت من كلام رسول الله ﷺ فكيف أهملها؟ فإن قيل: فقد أخرج في مسنده أشياء ضعيفة. ثم أعوذ بالله أن يكون سبع مائة ألف ما تحقق منها سوى ثلاثين ألفا. وكيف ضاعت هذه الجملة؟ ولم أهملت وقد وصلت كلها إلى زمن أحمد فانتقى منها ورمى الباقي؟ وأصحاب الحديث قد كتبوا كل شيء من الموضوع والكذب. وكذلك قال أبو داود: كتاب السنن من ستمائة ألف حديث. ولا يحسن أن يقال: إن الصحابة الذين رووها ماتوا ولم يحدثوا بها التابعين. فإن الأمر قد وصل إلى أحمد فأحصى سبع مائة ألف حديث، وما كان الأمر ليذهب هكذا عاجلا. ومعلوم أنه لو جمع الصحيح والمحال الموضوع وكل منقول عن رسول الله ﷺ، ما بلغ خمسين ألفا، فأين الباقي؟ ولا يجوز أن يقال تلك الأحاديث كلام التابعين، فإن الفقهاء نقلوا مذاهب القوم ودونوها وأخذوا بها، ولا وجه لتركها. ففهم كل ذي لب أن الإشارة إلى الطرق، وإن ما توهمه الحاكم فاسد. ولو عرض هذا الإعتراض عليه، وقيل له: الباقي؟ لم يكن له جواب. لكن الفهم عزيز. والله المنعم بالتوفيق. ومثل هذا تغفيل قوم قالوا: إن البخاري لم يخرج كل ما صح عنده، وأن ما أخرج كالأنموذج، وإلا فكان يطول. وقد ذهب إلى نحو هذا أبو بكر الإسماعيلي. وحكى عن البخاري أنه قال: ما تركت من الصحيح، أكثر. وإنما يعني الطرق، يدل على ما قلته، أن الدار قطني ـ وهو سيد الحفاظ ـ جمع ما يلزم البخاري ومسلم إخراجه فبلغ ما لم يذكراه أحاديث يسيرة، ولو كان كما قالوا، لأخرج مجلدات. ثم قوله: [ ما يلزم البخاري ] دليل صريح على ما قلته، لأنه من أخرج الأنموذج، لا يلزمه شيء. وكذلك أخرج أبو عبد الله الحاكم كتابا، جمع فيه ما يلزم البخاري، فذكر حديث الطائر، فلم يلتفت الحفاظ إلى ما قال. فما أقل فهم هؤلاء الذين شغلهم نقل الحديث عن التدقيق الذي لا يلزم في صحة الحديث. وإنما وقع لقلة الفقه والفهم. إن البخاري ومسلم، تركا أحاديث أقوام ثقات، لأنهم خولفوا في الحديث، فنقص الأكثرون من الحديث وزادوا. ولو كان ثم فقه، لعلموا أن الزيادة من الثقة مقبولة. وتركوا أحاديث أقوام، لأنهم افردوا بالرواية عن شخص. ومعلوم أن إنفراد الثقة لا عيب فيه، وتركوا من ذلك الغرائب، وكل ذلك سوء فهم. ولهذا لم يلتزم الفقهاء هذا، وقالوا: الزيادة من الثقة مقبولة ولا يقبل القدح حتى يبين سببه. وكل من يخالط الفقهاء وجهد مع المحدثين، تأذى وساء فهمه. فالحمد لله الذي أنعم علينا بالحالتين.