→ فصل: الله أعلم بما يصلح عبده | صيد الخاطر فصل: من قصد وجه الله بالعلم دله على الأحسن ابن الجوزي |
فصل: التوبة النصوح ← |
فصل: من قصد وجه الله بالعلم دله على الأحسن
اعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة، ومن الغلط الإنهماك في الإعادة ليلا ونهارا، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياما ثم يفتر أو يمرض. وقد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباري في مرض موته، فنظر إلى مائة كتاب وقال: [ قد كنت تفعل شيئا لا يفعله أحد ]، ثم خرج فقال: [ ما يجيء منه شيء ]، فقيل له: [ ما الذي كنت تفعل؟ ] قال: [ كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة ]. ومن الغلط تحميل القلب حفظ الكثير أو الحفظ من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح، وكما أن من الناس من يحمل المائة رطل، ومنهم من يعجز عن عشرين رطلا، فكذلك القلوب. فليأخذ الإنسان على قدر قوته ودونها، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه أوقات. كما أن الشره يأكل فضل لقيمات فيكون سببا إلى منع أكلات، والصواب أن يأخذ قدر ما يطيق ويعيده في وقتين من النهار والليل، ويرزقه القوى في بقية الزمان، والدوام أصل عظيم. فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ قد نسي. وللحفظ أوقات من العمر فأفضلها الصبا وما يقاربه من أوقات الزمان، وأفضلها إعادة الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع. ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة وعلى شاطئ نهر، لأن ذلك يلهي. والأماكن العالية للحفظ خير من السوافل. وللخلوة أصل، وجمع الهم أصل الأصول. وترفيه النفس من الإعادة يوما في الأسبوع ليثبت المحفوظ وتأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياما حتى يستقر ثم يبني عليه. تقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم، وألا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله. ومن لم يجد نشاطا للحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح. وإصلاح المزاح من الأصول العظيمة، فإن للمأكولات أثرا في الحفظ. قال الزهري: [ ما أكلت خلا منذ عالجت الحفظ ]. وقيل لأبي حنيفة: بم يستعان على حفظ الفقه؟ قال: بجمع الهم. وقال حماد بن سلمة: [ بقلة الغم ]. وقال مكحول: من نظف ثوبه قل همه، ومن طابت ريحه زاد عقله، ومن جمع بينهما زادت مروءته. وأختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعين سنة، وهذا لأجل جمع الهم، فإن غلب عليه الأمر تزوج واجتهد في المدافعة بالفعل لتتوفر القوة على إعادة العلم. ثم لينظر ما يحفظ من العلم، فإن العمر عزيز، والعلم غزير. وإن أقواما يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسنا، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل. وأفضل ما تشاغل به حفظ القرآن ثم الفقه، وما بعد هذا بمنزلة تابع، ومن رزق يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل، ومن قصد وجه الله تعالى بالعلم دله المقصود على الأحسن واتقوا الله ويعلمكم الله.