→ فصل: يجب أن يكون المحدث فقيها | صيد الخاطر فصل: العقل السليم في الجسم السليم ابن الجوزي |
فصل: استقامة الأمور باستقامة الباطن ← |
فصل: العقل السليم في الجسم السليم
معرفة الله سبحانه لا تحصل إلا لكامل العقل، صحيح المزاج، والترقي إلى محبته بذلك يكون. وإن أقواما قلت عقولهم، وفسدت أمزجتهم، فساءت مطاعمهم، وقلت، فتخايلت لهم الخيالات الفاسدة، فإدعوا معرفة الحق ومحبته، ولم يكن عندهم من العلم ما يصدهم عما ادعوا فهلكوا. وليعلم أن في المأكولات ما يسبب إفساد العقل وفيها ما يزيد في السوداء فيوجب المالخوليا، فترى صاحبها يحب الخلوة، ويهرب من الناس، وقد يقلل المطعم، فيقوى مرضه فيتخايل خيالات يظنها حقا. فمنهم من يقول: إني رأيت الملائكة، وفيهم من يخرجه الأمر إلى دعوى محبة الحق والولد فيه، ولا يكون ذلك عن أصل معتمد عليه. وإنما العاقل العالم يسير في الطريق بين الرفيقين: العلم والعقل. فإن تقلل من الطعام فبعقل، وحد التقلل ترك فضول المطعم وما يخاف شره من شهبة أو شهوة يحذر تعودا. وأما زيادة التقلل مع القدرة فليس لعقل ولا شرع، إلا أن يكون الفقر عم، فيتقلل ضرورة. ومن تأمل حال رسول الله ﷺ وأصحابه، وجدهم يأخذون بمقدار ولا يتركون حظوظ النفس التي تصلحها. وما أحسن الأمر وأعدله قول رسول الله ﷺ: ثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس. وقد قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو مريض: أصب من هذا الطعام فهو أوفق لك من هذا. وكان ﷺ يشاور الأطباء، ويحتجم، ويحث على التداوي ويقول: ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء فتداووا. فجاء أقوام جهلوا العلم والحكمة في بنيان الأبدان. فمنهم من أقام في الجبال يأكل البلوط، فأصابه القولنج، ومنهم من قلل المطعم إلى أن ضعفت قواه، ومنهم من اقتصر على نبات الصحراء، ومنهم من كان لا يقوت إلا الباقلاء والشعير. فأوجبت هذه الأفعال أمراضا في البدن، وترقت إلى إفساد العقل. وإتفق لهم قلة العلم، إذ لو علموا لفهموا أن الحكمة تنهي عن مثل هذا، فإن البدن مبني على أخلاط إذا اعتدلت وقعت السلامة، وإذا زاد بعضها وقع المرض. وأكثر هؤلاء مرضوا وتعجل لهم الموت، وفيهم من خرج إلى التسودن، وفيهم من لاحت له لوائح، فإدعى رؤية الملائكة إلى غير ذلك. فأما أهل العلم والعقل فهربهم من الخلق لخوف المعاصي ورؤية المنكر. وفيهم من قويت معرفته فشغلته معرفة الحق ومحبته على ملاقاة الخلق. فهذه هي الخلوات الصافية، لأنها تصدر عن علم وعقل فتحفظ البدن، لأنه ناقة توصل. ولا ينبغي أن يتهاون بالمأكولات، خصوصا من لم يعتد التقشف، ولا يلبس الصوف على البدن من لم يعتده. ولينظر في طريق رسول الله ﷺ وصحابته، فإنهم القدوة. ولا يلتفت إلى بنيات الطريق، فيقال: فلان الزاهد قد أكل الطين. وفلان كان يمشي حافيا، وفلان بقي شهرا ما أكل. فإن المحققين من هؤلاء المخلصين لله تعالى على غير الجادة لأن الجادة إتباع رسول الله ﷺ وأصحابه وما كانوا يفعلون. وهذا لعمري أنه قد كان فيهم من يقنع بالمذقة من اللبن، ويصبر الأيام عن الطعام. ولكن إما لضرورة، أو لأنه معتاد لذلك كما يعتاد البدوي شرب اللبن وحده ولا يؤذيه ذلك. وفي الحديث: عودوا كل بدن ما إعتاد وفي المتزهدين من أخرج ماله كله عن يده زهدا، ومعلوم أن الحاجات لا تنقضي، فلما إحتاج تعرض للطلب، وإفتقر إلى أخذ مال من يد من يعلم أنه ظالم وبذل وجهه. وقد كانت الصحابة تنجر وتحفظ المال، وجهال المتزهدين يرون جمع المال ينافي الزهد. فمخضة هذا الفصل أن أقول: ينبغي لمن رزق فهما أن يسعى في صلاح بدنه ولا يحمل عليه ما يؤذيه، ولا يناوله من القوت ما لا يوافقه، ولا يضيع ماله، وليجتهد في إشتثماره لئلا يحتاج، فإنه ما نافق زاهد إلا لأهل الدنيا. ولينظر في سير الكاملين من السلف. وليتشاغل بالعلم، فإنه الدليل. فحينئذ يحمله الأمر على الخلوة بربه، والإشتغال بحبه، فيكون ما ظهر منه ثمرة نضجة لا فجة، والله الموفق.