→ فصل: وعظ السلطان ومراعاة الأحوال | صيد الخاطر فصل: فيمن ادعوا النبوة ومن ادعوا الكرامات ابن الجوزي |
فصل: الاشتغال بخدمة الخالق ← |
فصل: فيمن ادعوا النبوة ومن ادعوا الكرامات
الحق لا يشتبه بباطل، إنما يموه الباطل عند من لا فهم له. هذا في حق من يدعي النبوات، وفي حق من يدعي الكرامات. أما النبوات فإنه إدعاها خلق كثير ظهرت قبائحهم، وبانت فضائحم ومنها ما أوجبته خسة الهمة والتهتك في الشهوات، والتهافت في الأقوال والأفعال ، حتى افتضحوا. فمنهم الأسود العنسي، إدعى النبوة ولقب نفسه ذا الحمارة، لأنه كان يقول: يأتيني ذو الحمار. وكان أول أمره كاهنا يشعوذ فيظهر الأعاجيب. فخرج في أواخر حياة النبي ﷺ فكاتبه مذحج ونجران وأخرجوا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد صاحبي رسول الله ﷺ، وصفا له اليمن، وقاتل شهر بن باذان فقتله وتزوج إبنته فأعانت على قتله فهلك في حياة رسول الله ﷺ، وبان للعقلاء أنه كان يشعبذ. ومنهم مسيلمة، إدعى النبوة وتسمى رحمن اليمامة، لأنه كان يقول: الذي يأتيني رحمان. فآمن برسول الله ﷺ وادعى أنه قد أشرك معه، فالعجب أنه يؤمن برسول ويقول إنه كذاب. ثم جاء بقرآن يضحك الناس، مثل قوله: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، ومن العجائب شاة سوداء تحلب لبنا أبيض. فانهتك ستره في الفصاحة. ثم مسح بيده على رأس صبي فذهب شعره. وبصق في بئر فيبست. وتزوج سجاح التي إدعت النبوة فقالوا: لا بد لها من مهر، فقال: مهرها أني قد أسقطت عنكم صلاة الفجر والعتمة. وكانت سجاح هذه قد إدعت النبوة بعد موت رسول الله ﷺ، فاستجاب لها جماعة فقالت: أعدوا الركاب، وإستعدوا للنهاب، ثم أعبروا على الرباب، فليس دونهم حجاب، فقاتلوهم. ثم قصدت اليمامة فهابها مسيلمة فراسلها وأهدى لها فحضرت عنده فقالت: اقرأ علي ما يأتيك به جبريل. فقال: إنكن معشر النساء خلقتن أفواجا، وجعلتن لنا أزواجا، نولجه فيكن إيلاجا. فقالت: صدقت أنت نبي. فقال لها: قومي إلى المخدع، فقد هيىء لك المضجع، فإن شئت مستلقاة، وإن شئت على أربع، وإن شئت بثلثيه، وإن شئت به أجمع، فقالت: بل به أجمع، فهو للشمل أجمع. فافتضحت عند العقلاء من أصحابها، فقال منهم عطارد بن حاجب:
أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
فلعنة الله رب الناس كلهم على سجاح ومن بالإفك أغوانا
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت أصداؤه من رعيت حيثما كانا
ثم أنها رجعت عن غيها وأسلمت، وما زالت تبين فضائح مسيلمة حتى قتل. ومنهم طليحة بن خويلد، خرج بعد دعوى مسيلمة النبوة وتبعه عوام ونزل سميرا، فتسمى بذي النون، يقول: إن الذي تأتيه يقال له ذو النون. وكان من كلامه: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم ولا قبح أدباركم شيئا فأذكروا الله أعفة قياما. ومن قرآنه: « والحمام واليمام، والصراد الصوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام ». تبعه عيينة بن حصين، فقاتله خالد بن الوليد. فجاء عيينة إلى طليحة فقال: ويحك أجاءك الملك؟ قال: لا، فارجع فقاتل، فقاتل. ثم عاد، فقال: أجاءك؟ فقال: فقال: لا، فعاد فقاتل. ثم عاد، فقال: أجاءك؟ قال: نعم. قال: ما قال لك؟ قال: قال إن لك جيشا لا تنساه. فصاح عيينة: الرجل ـ والله ـ كذاب. فانصرف الناس منهزمين، وهرب طليحة إلى الشام، ثم أسلم وصح إسلامه وقتل بنهاوند. وذكر الواقدي: أن رجلا من بني يربوع يقال له جندب بن كلثوم، كان يلقب كردانا، إدعى النبوة على رسول الله ﷺ، وكان يزعم أن دليله على نبوته أنه يسرج مسامير الحديد والطين. وهذا لأنه كان يطلي ذلك بدهن البيلسان فتعمل فيه النار. وقد تنبأ رجل يقال له كهمش الكلابي، كان يزعم أن الله تعالى أوحى إليه: [ يا أيها الجائع، اشرب لبنا تشبع، ولا تضرب الذي لا ينفع، فإنه ليس بمقنع ]. وزعم أن دليله على نبوته أنه يطرح بين السباع الضارية فلا تأكله، وحيلته في ذلك أنه يأخذ دهن الغار وحجر البرسان وقنفدا محرقا وزيد البحر وصدفا محرقا مسحوقا وشيئا من الصبر الحبط فيطلي به جسمه، فإذا قربت منه السباع فشمت تلك الأرياح وزفورتها نفرت. وتنبأ بالطائف رجل يقال له أبو جعوانة العامري، وزعم أن دليله أنه يطرح النار في القطن فلا يحترق. وهذا لأنه يدهنه بدهن معروف. ومنهم هذيل بن يعفور من بني سعد بن زهير، حكى عنه الأصمعي أنمه عارض سورة الإخلاص فقال: قل هو الله أحد إله كالأسد، جالس على الرصد، لا يفوته أحد. ومنهم هذيل بن واسع كان يزعم أنه من ولد النابغة الذبياني، عارض سورة الكوثر، فقال له رجل ما قلت؟ فقال: إنا أعطيناك الجوهر، فصل لربك وجاهر، فما يردنك إلا كل فاجر. فظهر عليه السنوري فقتله وصلبه على العمود، فعبر عليه الرجل فقال: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك من قعود، بلا ركوع ولا سجود فما أراك تعود. وممن ظهر فإدعى أنه يوحى إليه، المختار بن أبي عبيد، وكان متخبطا في دعواه، وقتل خلقا كثيرا، وكان يزعم أنه ينصر الحسين رضوان الله عليه، ثم قتل. ومنهم حنظلة بن يزيد الكوفي، كان يزعم أن دليل أنه يدخل البيضة في القنينة ويخرجها منها صحيحة، ذلك أنه كان ينقع البيضة في الخل الحامض فيلين قشرها ثم يصب ماء في قنينة، ثم يدس البيضة فيها، فإذا لقيت الماء صلبت. وقد تنبأ أقوام قبل نبينا ﷺ، كزرادشت وماني وافتضحوا. وما من المدعين إلا من خذل. وقد جاءت القرامطة بحيل عجيبة، وقد ذكرت جمهور هؤلاء وحيلهم في كتابي التاريخ المسمى بالمنتظم، وما فيهم من يتم له أمر إلا ويفتضح. ودليل صحة نبوة نبينا ﷺ أجلى من الشمس. فإنه ظهر فقيرا والخلق أعداؤه فوعد بالملك فملك. وأخبر بما سيكون فكان، وصين من زمن النبوة عن الشره وخساسة الهمة والكذب والكبر. وأيد بالثقة والأمانة والنزاهة والعفة، وظهرت معجزاته للبعيد والقريب. وأنزل عليه الكتاب العزيز الذي حارت فيه عقول الفصحاء، ولم يقدروا على الإتيان بآية تشبهه فضلا عن سورة. وقد قال قائلهم وافتضح، ثم أخبر أنه لا يعارض فيه كما قال. وذلك قوله تعالى: فاتوا بسورة ثم قال: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا وكذلك قوله: فتمنوا الموت ولن يتمنوه فما تمناه أحد. إذا لو قال قائل: قد تمنيته لبطلت دعواه. وكان يقول ليلة غزاة بدر: [ غدا مصرح فلان ههنا فلا يتعداه ]. وقال: [ إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، فما ملك بعدهما من كان له كبير قدر. ولا من إستتب له حال ]. ومن أعظم دليل على صدقه أنه لم يرد الدنيا، فكان يبيت جائعا، ويؤثر إذا وجد، ويلبس الصوف، ويقوم الليل. وإنما تطلب النواميس لاجتلاب الشهوات، فلما لم يردها دل على أنه يدل على الآخرة التي هي حق. ثم لم يزل دينه حتى عم الدنيا، وإن كان الكفر في زوايا الأرض، إلا أنه مخذول. وصار في تابعيه من أمته الفقهاء الذين لو سمع كلامهم الأنبياء القدماء تحيروا في حسن إستخراجهم، والزهاد الذين لو رآهم الرهبان تحيروا في صدق زهدهم، والفطناء الذين لا نظير لم في القدماء. أو ليس قوم موسى يعبدون بقرة، ويتوقفون في ذبح بقرة، ويعبرون البحر، ثم يقولون: إجعل لنا إلها؟ وقوم عيسى يدخرون من المائدة وقد نهوا. والمعتدون في السبت يعصون الله لأجل الحيتان. وأمتنا بحمد الله تعالى سليمة من هذه الأشياء، وإنما في بعضا ميل إلى الشهوات المنهي عنها، وذلك من الفروع لا من الأصول. فإذا ذكروا بكوا وندموا على تفريطهم. فنحمد الله على هذا الدين، وعلى أننا من أمة هذا الرسول ﷺ. وقد كان جماعة من المتصنعين بالزهد مالوا إلى طلب الدنيا والرياسة، فإستغواهم الهوى فخرقوا بإظهار ما يشبه الكرامات، كالحلاج، وابن الشاش، وغيرهما ممن ذكرت حال تلبيسه في كتاب تلبيس إبليس. وإنما فعلوا ذلك لاختلاف أغراضهم، ولم يزل الله ينشىء في هذا الدين من الفقهاء من يظهر ما أخفاه القاصرون. كما ينشىء من علماء الحديث من يهتك ما أشاعه الواضعون، حفظا لهذا الدين ودفعا للشبهات عنه. فلا يزال الفقيه والمحدث يظهران عوار كل ملبس بوضع حديث أو بإظهار دعوى تزهد وتنميس فلا يؤثر ما إدعياه إلا عند جاهل بعيد من العلم والعمل. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.