→ فصل: الغنى عما في أيدي الناس | صيد الخاطر فصل: على الفقه مدار العلوم ابن الجوزي |
فصل: الجزاء على مقادر الاخلاص ← |
فصل: على الفقه مدار العلوم
رأيت الشره في تحصيل الأشياء يفوت الشره عليه مقصوده. وقد رأينا من كان شرها في جمع المال فحصل له الكثير منه وهو مع ذلك حريص على الإزدياد. ولو فهم، علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر، فإذا أنفق العمر في تحصيله فات المقصودان جميعا. وكم رأينا من جمع المال ولم يتمتع به فأبقاه لغيره وأفنى نفسه كما قال الشاعر:
كدودة القز ما تبنيه يهدمها وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
وكذلك رأينا خلقا كثيرا يحرصون على جمع الكتب فينفقون أعمارهم في كتابتها، وكدأب أهل الحديث ينفقون الأعمار في النسخ والسماع إلى ماخر العمر ثم ينقسمون: فمنهم من يتشاغل بالحديث وعلمه وتصحيحه، ولعله لا يفهم جواب حادثة، ولعل عنده للحديث ـ أسلم سالمها الله ـ مائة طريق. وقد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع جزء ابن عرفة عن مائة شيخ، وكان عنده سبعون نسخة. ومنهم من يجمع الكتب ويسمعها ولا يدري ما فيها لا من صحة حديثها ولا من فهم معناها، فتراه يقول الكتاب الفلاني سماعي وعندي له نسخة، والكتاب الفلاني والفلاني فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه، وقد صده إشتغاله بذلك عن المهم من العلم فهم كما قال الحطيئة:
زوامل للأخبار لا علم عندها بمثقلها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر
ثم ترى منهم من يتصدر بإتقانه للرواية وحدها فيمد يده إلى ما ليس من شغله، فإن أفتى أخطأ، وإن تكلم في الأصول خلط. ولولا أني لا أحب ذكر الناس لذكرت من أخبار كبار علمائهم وما خلطوا ما يعتبر به، ولكنه لا يخفى على المحقق حالهم. فإن قال قائل: أليس في الحديث: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا؟ قلت: أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم، ولا اقتصر على بعضه. بل أقول له: قدم المهم، فإن العاقل من قدر عمره وعمل بمقتضاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب، فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زادا، وإن مات قبل الوصول فنيته تسلك به. فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلا بسماع الحديث ونسخه ليحصل كل طريق، وكل رواية، وكل غريب، وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة، خصوصا إن تشاغل بالنسخ. ثم لا يحفظ القرآن، أو يتشاغل بعلوم القرآن ولا يعرف الحديث، أو بالخلاف في الفقه ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة. فإن قال قائل: فدبر لي ما تختار لنفسك؟ فأقول: ذو الهمة لا يخفى من زمان الصبا. كما قال سفيان بن عيينة: قال لي أبي ـ وقد بلغت خمس عشرة سنة ـ: [ إنه قد نقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله، فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها ولا أميل عنها ]. ثم فبل شروعي في الجواب أقول: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس. فلو كانت النبوة مثلا تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية. أو تصور أن يكون مثلا خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة. ولو صح له أن يكون ملكا لم يرض أن يكون بشرا. والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل. وقد علم قصر العمر وكثرة العلم فيبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرا متوسطا لا يخفى عليه بذلك منه شيء. وإن صح له قراءة القراءات السبعة وأشياء من النحو وكتب اللغة وابتداء بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك. وقد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب. ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه كنسب الرسول ﷺ وأقاربه وأزواجه وما جرى له، ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن إعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه فيطلبه من مظانه، كتفسير آية وحديث وكلمة لغة. ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض، وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم. ويكفيه من النظر في الأصول ما يستدل به على وجودد الصانع، فإذا أثبته بالدليل وعرف ما يجوز عليه مما لا يجوز، وأثبت إرسال الرسل وعلم وجوب القبول منهم، فقد إحتوى على لمقصود من علم الأصول. فإن إتسع الزمان للتزيد من العلم، فليكن من الفقه فإنه الأنفع. ومهما فسح له في المهل فأمكنه تصنيف في علم، فإنه يخلف بذلك خلفه خلفا صالحا، مع اجتهاده في التسبب إلى إتخاذ الولد، ثم يعلم أن الدنيا معبرة فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل، فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه. فإذا تعرض لتحقيق معرفته ووقف على باب معاملته فقل أن يقف صادقا إلا ويجذب إلى مقام الولاية، ومن أريد وفق. وإن لله عز وجل أقواما يتولى ترتيبهم، ويبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدبا، ويسمى العقل. ومقوما، ويقال له الفهم، ويتولى تأديبهم وتثقيفهم، ويهيء لهم أسباب القرب منه. فإن لاح قاطع عنه حماهم منه، وإن تعرضت بهم فتنة دفعها عنهم. فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه إجتهاد.