→ فصل: إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين | صيد الخاطر فصل: أدعياء العلم ابن الجوزي |
فصل: لم لم يواجه الله عباده بالرحم؟ ← |
فصل: أدعياء العلم
عجبت من أقوام يدعون العلم، ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها، فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا، لأن من أمر ما جاء ومر من غير اعتراض [ ولا تعرض ]؟ فما قال شيئا لا له ولا عليه. ولكن أقواما قصرت علومهم، فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهرة نوع تعطيل، ولو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا. وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكتابه وقد مدحته الخنساء فقالت:
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة شفاها
فلما أتمت القصيدة، قال لكاتبه: اقطع لسانها، فجاء ذلك الكاتب المغفل بالموس. قالت له: ويلك إنما قال: أجزي لها العطاء. ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت: كاد والله يقطع مقولي. فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم، فإنه من قرأ الآيات والأحاديث ولم يزد، ألمه، وهذه طريقة السلف. فأما من قال: الحديث يقتضي كذا، ويحمل على كذا، مثل أن يقول: استوى على العرش بذاته، ينزل إلى السماء الدنيا بذاته، فهذه زيادة فهمها قائلة من الحس لا من النقل. ولقد عجبت لرجل أندلس يقال له ابن عبد البر، صنف كتاب التمهيد، فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال: هذا يدل على أن الله تعالى على العرش لأنه لو لا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى. وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل. لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الجسام. فقاس صفة الحق عليه. فأين هؤلاء واتباع الأثر؟ ولقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون، ثم عابوا المتكلمين. واعلم أيها الطالب للرشاد، أنه سبق إلينا من العقل والنقل أصلان راسخان عليهما مر الأحاديث كلها. أما النقل فقوله سبحانه وتعالى: ليس كمثله شيء. ومن فهم هذا لم يحمل وصفا له على ما يوجبه الحس. وأما العقل، فإنه قد علم مباينه الصانع للمصنوعات، واستدل على حدوثها بتغيرها، ودخول الإنفعال عليها، فثبت له قدم الصانع. واعجبا كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلام. أليس في الحديث الصحيح، أن الموت يذبح بين الجنة والنار؟ أو ليس العقل إذا استغنى في هذا صرف الأمر عن حقيقته؟ لما ثبت عند من يفهم ما هية الموت. فقال: الموت عرض يوجب بطلان الحياة. فكيف يمات الموت؟ فإذا قيل له: فما تصنع بالحديث؟ قال: هذا ضرب مثلا بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى. قلنا له: فقد روى في الصحيح: [ تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان ]، فقال: الكلام لايكون غمامة، ولا يتشبه بها. قلنا له أفتعطل النقل؟ قال: لا، ولكن يأتي ثوابهما. قلنا فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق؟ فقال: علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام، والموت لا يذبح ذبح الأنعام. ولقد علمتم سعة لغة العرب. ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا. فقال العلماء: صدقت. هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة، وفي ذبح الموت. فقال واعجبا لكم، صرفتم عن الموت والكلام ما لا يليق بهما، حفظا لما علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقه، بما قددل الدليل على تنزيهه عنه؟ فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة. ويقول: لا أقطع حتى أقطع، فما قطع حتى قطع.