→ فصل: القناعة بالقليل | صيد الخاطر فصل: ثمرة العقل فهم الخطاب ابن الجوزي |
فصل: العلم أشرف مكتسب ← |
فصل: ثمرة العقل فهم الخطاب
مدار الأمر كله على العقل، فإنه إذا تم العقل لم يعمل صاحبه إلا على أقوى دليل، وثمرة العقل فهم الخطاب، وتلمح المقصود من الأمر. ومن فهم المقصود وعمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق. وإني رأيت كثيرا من الناس لا يعملون على دليل، بل كيف اتفق، وربما كان دليلهم العادات، وهذا أقبح شيء يكون. ثم رأيت خلقا كثيرا لا يتبعون الدليل بطريق إثباته كاليهود والنصارى. فإنهم يقلدون الآباء ولا ينظرون فيما جاء من الشرائع هل صحيح أم لا، وكذلك يثبتون الإله ولا يعرفون ما يجوز عليه مما لا يجوز، فينسبون إليه الولد، ويمنعون جواز تغييره ما شرع. وهؤلاء لم ينظروا حق النظر لا في إثبات الصانع وما يجوز عليه، ولا الدليل على صحة النبوات، فتقع أعمالهم ضائعة كالباني على رمل. ومن هذا القبيل في المعنى قوم يتعبدون ويتزهدون وينصبون أبدانهم في العلم بأحاديث باطلة، ولا يسألون عنها من يعلم. ومن الناس من يثبت الدليل ولا يفهم المقصود الذي دل عليه الدليل. ومن هذا الجنس قوم سمعوا ذم الدنيا فتزهدوا، وما فهموا المقصود، فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها، وأن النفس تجب عداوتها، فحملوا على أنفسهم فوق ما يطاق، وعذبوها بكل نوع ومنعوها حظوظها، جاهلين بقوله ﷺ إن لنفسك عليك حقا. وفيهم من أدته الحال إلى ترك الفرائض، ونحول الجسم، وضعف القوى. وكل ذلك لضعف الفهم للمقصود والتلمح للمراد. كما روي عن داود الطائي أنه كان يترك ماء في دن تحت الأرض فيشرب منه وهو شديد البحر. وقال لسفيان: [ إذا كنت تأكل اللذيذ الطيب، وتشرب الماء البارد المبرد، فمتى تحب الموت والقدوم على الله؟ ] وهذا جهل بالمقصود. فإن شرب الماء الحار يورث أمراضا في البدن ولا يحصل به الري. وما أمرنا بتعذيب أنفسنا على هذه الصورة، بل تترك ما تدعو إليه من ما نهى الله عنه. وفي الحديث الصحيح: أنا أبا بكر رضي الله عنه لما حلب له الراعي في طريق الهجرة صب الماء على القدح حتى برد أسفله، ثم سقى رسول الله ﷺ، وفرش له في ظل صخرة. وكان يستعذب لرسول الله ﷺ الماء. وقال: إن عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا. ولو فهم داوود رحمه الله أن إصلاح علف الناقة متعين لقطع المسافة لم يفعل هذا. ألا ترى إلى سفيان الثوري فإنه كان شديد المعرفة والخوف وكان يأكل اللذيذ ويقول: [ إن الدابة إذا لم يحسن إليها لم تعمل ]. ولعل بعض من لم يسمع كلامي هذا يقول: هذا ميل على الزهاد. فأقول: كن مع العلماء، وأنظر إلى طريق الحسن، وسفيان، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والشافعي، وهؤلاء أصول الإسلام. ولا تقلد دينك من قل علمه وإن قوى زهده، واحمل أمره على أنه كان يطيق هذا ولا تقتد بهم فيما لا تطيقه، فليس أمرنا إلينا، والنفس وديعة عندنا، فإن أنكرت ما شرحته فأنت ملحق بالقوم الذي نكرت عليهم. وهذا رمز إلى المقصود. والشرح يطول.