→ فصل: كم من محتقر احتيج إليه | صيد الخاطر فصل: في القناعة سلامة الدنيا والدين ابن الجوزي |
فصل: لن يصيبا إلا ما كتب الله لنا ← |
فصل: في القناعة سلامة الدنيا والدين
رأيت النفس تنظر إلى لذات أرباب الدنيا العاجلة وتنسى كيف حصلت وما يتضمنها من الأفات. وبيان هذا أنك إن رأيت صاحب إمارة وسلطنة فتأملت نعمته وجدتها مشوية، إن لم يقصد هو الشر حصل من عماله، ثم هو خائف منزعج في كل أموره، حذر من عدو أن يسيئه، فلق ممن هو فوقه أن يعزله، ومن نظيره أن يكيده، ثم أكثر زمانه يمضي في خدمة من يخافه من السلاطين، وفي حساب أموالهم وتنفيذ أوامرهم التي لا تخلو من أشياء منكرة، وإن عزل أربى ذلك على جميع ما نال من لذة. ثم تلك اللذة تكون مغمورة بالحذر فيها، ومنها، وعليها. وإن رأيت صاحب تجارة رأيته قد تقطع في البلاد فلم ينل ما نال إلا بعد علة السن وذهاب زمان اللذة. كما حكى أن رجلا من كان حال شبيبة فقيرا، كما كبر استغنى وملك أموالا واشترى عبيدا من الترك وغيرهم، وجواري من الروم، فقال هذه الأبيات في شرح حاله:
ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا ملكته بعد أن جاوزت سبعينا
تطوف بي من الأتراك أغزلة مثل الغصون على كثبان يبرينا
وخرد من بنات الروم رائعة يحكين بالحسن حور الجنة العينا
يغمزنني بأساريع منعمة تكاد تعقد من أطرفها لينا
يردن إحياء ميت لا حراك به وكيف يحيين ميتا صار مدفونا
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
وهذه الحالة هي الغالية فإن الإنسان لا يكاد يجتمع له كل ما يحبه إلا عند قرب رحيله، فإن بدر ما يحب في بداية شبابه فالصبوة مانعة من فهم التدابير أو حسن الإلتزاز والإنسان في حالة الصبوة لا يدري أين هو إلا أن يبلغ، فإذا بلغ كانت همته في المنكوح كيفما اتفق، وإن تزوج جاء الأولاد فمنعوه اللذة وانكسر في نسفه وافتقر إلى الكسب عليهم، فبينما هو قد دعك في تلك المديدة القريبة من الثلاثين وخطه الشيب فانفرق من نفسه لعمله أن النساء يتفرقن منه، كما قال ابن المعتز بالله: لقد أتعبت نفسي في مشيبي فكيف تحبي الغيد الكعاب وهكذا لا ترى المتمتع بالمستحسنات، إن وجدهن، لم يجد مالا يبلغ به المراد، وإن اشتغل بجمع المال ضاع زمن تمتعه، وإذا تم المطلوب فالشيب أقبح قذى وأعظم مبغض. ثم إن صاحب المال خائف على ماله، محاسب لمعامليه، مذموم إن أسرف وإن فتر. ولده يرصد موته، وجاريته قد لا ترضى بشخصه، وهو مشغول بحفظ حواشيه، فقد مضى زمانه في محن، واللذات فيها خلس معتادة لا لذة فيها، ثم في القيامة يحشر الأمير والتاجر خزايا، إلا من عصم الله. فإياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم فإنك تستطيبه لبعده عنك، ولو قد بلغته كرهته، ثم في ضمنه من محن الدنيا والآخرة ما لا يوصف. فعليك بالقناعة مهما أمكن، ففيها سلامة الدنيا والدين. وقد قيل لبعض الزهاد وعنده خبز يابس: كيف تشتهي هذا؟ فقال: أتركه حتى أشتهيه.