→ ثم دخلت سنة أربعين ومائتين | البداية والنهاية – الجزء العاشر وهذه ترجمة أحمد بن أبي دؤاد ابن كثير |
وأما سحنون المالكي صاحب المدونة ← |
هو أحمد بن أبي دؤاد، واسمه الفرج، - وقيل: دعمى، والصحيح أنه اسمه، كنيته الأيادي المعتزلي.
قال ابن خلكان في نسبه: هو أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد فرج بن جرير بن مالك بن عبد الله بن عباد بن سلام بن مالك بن عبد هند بن عبد نجم بن مالك بن فيض بن منعة بن برجان بن دوس الهذلي بن أمية بن حذيفة بن زهير بن إياد بن أد بن معد بن عدنان.
قال الخطيب: ولي ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم ثم للواثق، وكان موصوفا بالجود والسخاء وحسن الخلق ووفور الأدب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة.
قال الصولي: لم يكن بعد البرامكة أكرم منه، ولولا ما وضع من نفسه من محبة المحنة لاجتمعت عليه الإنس.
قالوا: وكان مولده في سنة ستين ومائة، وكان أسن من يحيى بن أكثم بعشرين سنة.
قال ابن خلكان: وأصله من بلاد قنسرين، وكان أبوه تاجرا يفد إلى الشام ثم وفد إلى العراق وأخذ ولده هذا معه إلى العراق، فاشتغل بالعلم وصحب هياج بن العلاء السلمى أحد أصحاب واصل بن عطاء فأخذ عنه الاعتزال، وذكر أنه كان يصحب يحيى بن أكثم القاضي ويأخذ عنه العلم، ثم سرد له ترجمة طويلة في كتاب الوفيات، وقد امتدحه بعض الشعراء فقال:
رسول الله والخلفاء منا * ومنا أحمد بن أبي دؤاد
فرد عليه بعض الشعراء فقال:
فقل للفاخرين على نزار * وهم في الأرض سادات العباد
رسول الله والخلفاء منا * ونبرأ من دعى بني إياد وما منا إياد إذا أقرت * بدعوة أحمد بن أبي دؤاد قال: فلما بلغ ذلك أحمد بن أبي دؤاد قال: لولا أني أكره العقوبة لعاقبت هذا الشاعر عقوبة ما فعلها أحد. وعفا عنه. قال الخطيب: حدثني الأزهر ثنا أحمد بن عمر الواعظ حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك حدثني جرير بن أحمد أبو مالك قال: كان أبي- يعني أحمد بن أبي دؤاد - إذا صلى رفع يديه إلى السماء وخاطب ربه وأنشأ يقول:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما * نجح الأمور بقوة الأسباب
واليوم حاجتنا إليك وإنما * يدعى الطبيب لساعة الأوصاب
ثم روى الخطيب أن أبا تمام دخل على ابن أبي دؤاد يوما فقال له: أحسبك عاتبا.
فقال: إنما يعتب علي واحد، وأنت الناس جميعا.
فقال له: أنى لك هذا؟
فقال: من قول أبي نواس
وليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد
وامتدحه أبو تمام يوما فقال:
لقد أنست مساوى كل دهر * محاسن أحمد بن أبي دؤاد
وما سافرت في الآفاق إلا * ومن جدوك راحلتي وزادي
نعم الظن عندك والأماني * وإن قلقت ركابي في البلاد
فقال له: هذا المعنى تفردت به، أو أخذته من غيرك؟
فقال: هو لي، غير أني ألمحت بقول أبي نواس:
وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة * لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني
وقال محمد بن الصولي: ومن مختار مديح أبي تمام لأحمد بن أبي دؤاد قوله:
أأحمد إن الحاسدين كثير * ومالك إن عد الكرام نظير
حللت محلا فاضلا متفادما * من المجد والفخر القديم فخور
فكل غني أو فقير فإنه * إليك وأن نال السماء فقير
إليك تناهى المجد من كل وجهة * يصير فما يعدوك حيث يصير
وبدر إياد أنت لا ينكرونه * كذاك إياد للأنام بدور
تجنبت أن تدعى الأميرة تواضعا *وأنت لمن يدعى الأمير أمير
فما من يد إلا إليك ممدة * وما رفعة إلا إليك تشير
قلت: قد أخطأ الشاعر في هذه الأبيات خطأً كبيرا، وأفحش في المبالغة فحشا كثيرا، ولعله إن اعتقد هذا في مخلوق ضعيف مسكين ضال مضل، أن يكون له جهنم وساءت مصيرا.
وقال ابن أبي دؤاد يوما لبعضهم: لما لم لا تسألني؟
فقال له: لأني لو سألتك أعطيتك ثمن صلتك.
فقال له: صدقت وأرسل إليه بخمسة آلاف درهم.
وقال ابن الأعرابي: سأل رجل ابن أبي دؤاد أن يحمله على عير فقال: يا غلام أعطه عيرا وبغلا.
وبرذونا وفرسا وجارية.
قال له: لو أعلم مركوبا غير هذا لأعطيتك. ثم أورد الخطيب بأسانيده عن جماعة أخبارا تدل على كرمه وفصاحته وأدبه وحلمه ومبادرته إلى قضاء الحاجات، وعظيم منزلته عند الخلفاء.
وذكر عن محمد المهدي بن الواثق: أن شيخا دخل يوما على الواثق فسلم، فلم يرد عليه الواثق بل قال: لا سلم الله عليك.
فقال: يا أمير المؤمنين بئس ما أدبك معلمك.
قال الله تعالى: { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } [النساء: 86] فلا حييتني بأحسن منها، ولا رددتها فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين الرجل متكلم.
فقال: ناظره. فقال ابن أبي دؤاد ما تقول يا شيخ في القرآن: أمخلوق هو؟
فقال الشيخ: لم تنصفني المسألة لي.
فقال: قل !
فقال: هذا الذي تقوله علمه رسول الله ﷺوأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو ما علموه؟
فقال ابن أبي دؤاد: لم يعلموه.
قال: فأنت علمت ما لم يعلموا؟ فخجل وسكت، ثم قال: أقلني بل علموه.
قال: فلم لا دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت، أما يسعك ما وسعهم؟ فخجل وسكت، وأمر الواثق له بجائزة نحو أربعمائة دينار فلم يقبلها.
قال المهدي: فدخل أبي المنزل فاستلقى على ظهره، وجعل يكرر قول الشيخ على نفسه ويقول:
أما وسعك ما وسعهم؟ ثم أطلق الشيخ وأعطاه أربعمائة دينار ورده إلى بلاده، وسقط من عينيه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعده أحدا. ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف، وساق قصته مطولة، وقد أنشد ثعلب عن أبي حجاج الأعرابي أنه قال في ابن أبي دؤاد:
نكست الدين يا ابن أبي دؤاد * فأصبح من أطاعك في ارتداد
زعمت كلام ربك كان خلقا * أما لك عند ربك من معاد
كلام الله أنزله بعلم * على جبريل إلى خير العباد
ومن أمسى ببابك مستضيفا * كمن حل الفلاة بغير زاد
لقد أطرفت يا ابن أبي دؤاد * بقولك إنني رجل إيادي
ثم قال الخطيب: أنبأ القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال: أنشدنا المعافى بن زكريا الجريري عن محمد بن يحيى الصولي لبعضهم يهجو ابن أبي دؤاد:
لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد * وكان عزمك عزما فيه توفيق
وقد تقدمت هذه الأبيات.
وروى الخطيب عن أحمد بن الموفق أو يحيى الجلاء أنه قال: ناظرني رجل من الواقفية في خلق القرآن فنالني منه ما أكره فلما أمسيت أتيت امرأتي فوضعت لي العشاء فلم أقدر أن أنال منه شيئا، فنمت فرأيت رسول الله ﷺفي المسجد الجامع، وهناك حلقة فيها أحمد بن حنبل وأصحابه، فجعل رسول الله ﷺيقرأ هذه الآية: { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ } [الأنعام: 89] .
ويشير إلى حلقة ابن أبي دؤاد { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْما لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } [الأنعام: 89] ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه وقال بعضهم: رأيت في المنام كأن قائلا يقول: هلك الليلة أحمد بن أبي دؤاد، فقلت له: وما سبب هلاكه؟
فقال: إنه أغضب الله عليه فغضب عليه من فوق سبع سموات.
وقال غيره: رأيت ليلة مات ابن أبي دؤاد كأن النار زفرت زفرة عظيمة فخرج منها لهب فقلت: ما هذا؟
فقيل: هذا أنجزت لابن أبي دؤاد.
وقد كان هلاكه في يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة، وصلى عليه ابنه العباس ودفن في داره ببغداد وعمره يومئذ ثمانون سنة، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين حتى بقي طريحا في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئا من جسده، وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك.
وقد دخل عليه بعضهم فقال: والله ما جئتك عائدا وإنما جئتك لأعزيك في نفسك، وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من كل سجن، ثم خرج عنه داعيا عليه بأن يزيده الله ولا ينقصه مما هو فيه، فازداد مرضا إلى مرضه. وقد صودر في العام الماضي بأموال جزيلة جدا، ولو كان يحمل العقوبة لوضعها عليه المتوكل.
قال ابن خلكان: كان مولده في سنة ستين ومائة، قلت: فعلى هذا يكون أسن من أحمد بن حنبل، ومن يحيى بن أكثم الذي ذكر ابن خلكان أن ابن أكثم كان سبب اتصال ابن أبي دؤاد بالخليفة المأمون، فحظي عنده بحيث إنه أوصى به إلى أخيه المعتصم، فولاه المعتصم القضاء والمظالم، وكان ابن الزيات الوزير يبغضه وجرت بينهما منافسات وهجو، وقد كان لا يقطع أمرا بدونه. وعزل ابن أكثم عن القضاء وولاه مكانه، وهذه المحنة التي هي أس ما بعدها من المحن، والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن.
ثم ذكر ابن خلكان ما ضرب به الفالج وما صودر به من المال، وأن ابنه أبا الوليد محمد صودر بألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وأنه مات قبل أبيه بشهر. وأما ابن عساكر فإنه بسط القول في ترجمته وشرحها شرحا جيدا. وقد كان أديبا فصيحا كريما جوادا ممدحا يؤثر العطاء على المنع، والتفرقة على الجمع، وقد روى ابن عساكر بإسناده أنه جلس يوما مع أصحابه ينتظرون خروج الواثق فقال ابن أبي دؤاد إنه: ليعجبني هذان البيتان:
ولي نظرة لو كان يحبل ناظر * بنظرته أنثى لقد حبلت مني
فإن ولدت ما بين تسعة أشهر * إلى نظر ابنا فإن ابنها مني
وممن توفي فيها من الأعيان:
أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء والمشاهير، قال الإمام أحمد هو عندنا في مسلاخ الثوري. وخليفة بن خياط أحد أئمة التاريخ، وسويد بن سعد الحدثاني، وسويد بن نصر، وعبد السلام بن سعيد الملقب بسحنون أحد فقهاء المالكية المشهورين، وعبد الواحد بن غياث وقتيبة بن سعيد شيخ الأئمة والسنة، وأبو العميثل عبد الله بن خالد كاتب عبد الله بن طاهر وشاعره، كان عالما باللغة، وله فيها مصنفات عديدة أورد منها ابن خلكان جملة، ومن شعره يمدح عبد الله بن طاهر:
يا من يحاول أن تكون صفاته * كصفات عبد الله أنصت واسمع
فلا نصحنك في خصال والذي * حج الحجيج إليه فاسمع أو دع
أصدق وعف وبر واصبر واحتمل * واصفح وكافئ دار واحلم واشجع
والطف ولن وتأن وارفق واتئد * واحزم وجد وحام واحمل وادفع
فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي * وهديت للنهج الأسد المهيع