→ ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة | البداية والنهاية – الجزء العاشر غادر ابن كثير |
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة من الهجرة ← |
جارية كانت لموسى الهادي، كان يحبها حبا شديدا جدا، وكانت تحسن الغناء جدا، فبينما هي يوما تغنيه إذ أخذته فكرة غيبته عنها وتغير لونه، فسأله بعض الحاضرين: ما هذا يا أمير المؤمنين؟
فقال: أخذتني فكرة أني أموت وأخي هارون يتولى الخلافة بعدي ويتزوج جاريتي هذه.
ففداه الحاضرون ودعوا له بطول العمر.
ثم استدعى أخاه هارون فأخبره بما وقع فعوذه الرشيد من ذلك، فاستحلفه الهادي بالأيمان المغلظة من الطلاق والعتاق والحج ماشيا حافيا أن لا يتزوجها، فحلف له واستحلف الجارية كذلك فحلفت له، فلم يكن إلا أقل من شهرين حتى مات، ثم خطبها الرشيد فقالت: كيف بالأيمان التي حلفناها أنا وأنت؟
فقال: إني أكفر عني وعنك.
فتزوجها وحظيت عنده جدا، حتى كانت تنام في حجره فلا يتحرك خشية أن يزعجها.
فبينما هي ذات ليلة نائمة إذا انتبهت مذعورة تبكي فقال لها: ما شأنك؟
فقالت: يا أمير المؤمنين ! رأيت الهادي في منامي هذا وهو يقول:
أخلفت عهدي بعد ما * جاورت سكان المقابر
ونسيتي وحنثت في * أيمانك الكذب الفواجر
ونكحت غادرة أخي * صدق الذي سماك غادر
أمسيت في أهل البلى * وعددت في الموتى الغوابر
لا يهنك الألف الجديـ * ـد ولا تدر عنك الدوائر
ولحقت بي قبل الصبا * ح وصرت حيث غدوت صائر
فقال لها الرشيد: أضغاث أحلام.
فقالت: كلا والله يا أمير المؤمنين، فكأنما كتبت هذه الأبيات في قلبي.
ثم ما زالت ترتعد وتضطرب حتى ماتت قبل الصباح.
وفيها ماتت: هيلانة جارية الرشيد، وهو الذي سماها هيلانة لكثرة قولها: هي لانه.
قال الأصمعي: وكان لها محبا، وكانت قبله لخالد بن يحيى بن برمك، فدخل الرشيد يوما منزله قبل الخلافة فاعترضته في طريقه وقالت: أما لنا منك نصيب؟
فقال: وكيف السبيل إلى ذلك؟
فقالت: استوهبني من هذا الشيخ.
فاستوهبها من يحيى بن خالد فوهبها له وحظيت عنده، ومكثت عنده ثلاث سنين ثم توفيت فحزن عليها حزنا شديدا ورثاها وكان من قوله فيها:
قد قلت لما ضمنوك الثرى * وجالت الحسرة في صدري
أذهب فلاق الله لا سرني * بعدك شيء آخر الدهر
وقال العباس بن الأحنف في موتها:
يا من تباشرت القبور بموتها * قصد الزمان مساءتي فرماك
أبغي الأنيس فما أرى لي مؤنسا * إلا التردد حيث كنت أراك
قال: فأمر له الرشيد بأربعين ألفا، لكل بيت عشرة آلاف، فالله أعلم.