→ خلافة هارون الواثق بن المعتصم | البداية والنهاية – الجزء العاشر بشر الحافي الزاهد المشهور ابن كثير |
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين ← |
وهو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، المروزي، أبو نصر، الزاهد المعروف: بالحافي، نزل بغداد.
قال ابن خلكان: وكان اسم جده: عبد الله الغيور، أسلم على يدي علي بن أبي طالب.
قلت: وكان مولده ببغداد سنة خمسين ومائة، وسمع بها شيئا كثيرا من: حماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وابن مهدي، ومالك، وأبي بكر بن عياش، وغيرهم.
وعنه جماعة منهم: أبو خيثمة، وزهير بن حرب، وسري السقطي، والعباس بن عبد العظيم، ومحمد بن حاتم.
قال محمد بن سعيد: سمع بشرا كثيرا ثم اشتغل بالعبادة واعتزل الناس ولم يحدث.
وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة في عبادته وزهادته وورعه ونسكه وتقشفه.
قال الإمام أحمد يوم بلغه موته: لم يكن له نظير إلا عامر بن عبد قيس، ولو تزوج لتم أمره.
وفي رواية عنه أنه قال: ما ترك بعده مثله.
وقال إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتم عقلا منه، ولا أحفظ للسانه منه، ما عرف له غيبة لمسلم، وكان في كل شعرة منه عقل، ولو قسم عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء وما نقص من عقله شيء.
وذكر غير واحد أن بشرا كان شاطرا في بدء أمره، وأن سبب توبته أنه وجد رقعة فيها اسم الله عز وجل على الأرض فرفعها !
ثم ذهب إلى عطار فاشترى بدرهم غالية وضمخ تلك الرقعة منها ووضعها اسفل حائط منزله حتى لا يدا عليها، فأحيى الله قلبه وألهمه رشده وصار إلى ما صار إليه من العبادة والزهادة.
من كلامه: من أحب الدنيا فليتهيأ للذل.
وكان بشر يأكل الخبز وحده، فقيل له: أما لك أدم؟
فقال: بلى ! أذكر العافية فأجعلها أدما.
وكان لا يلبس نعلا بل يمشي حافيا، فجاء يوما إلى باب فطرقه فقيل: من ذا؟
فقال: بشر الحافي.
فقالت له جارية صغيرة: لو اشترى نعلا بدرهم لذهب عنه اسم الحافي.
قالوا: وكان سبب تركه النعل أنه جاء مرة إلى حذّاء فطلب منه شراكا لنعله فقال: ما أكثر كلفتكم يا فقراء على الناس؟!
فطرح النعل من يده وخلع الأخرى من رجله وحلف لا يلبس نعلا أبدا.
قال ابن خلكان: وكانت وفاته يوم عاشوراء.
وقيل: في رمضان ببغداد.
وقيل: بمرو.
قلت: الصحيح ببغداد في هذه السنة.
وقيل: في سنة ست وعشرين.
والأول أصح، والله أعلم.
وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة أبيهم، فأخرج بعد صلاة الفجر فلم يستقر في قبره إلا بعد العتمة.
وكان علي المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلا صوته في الجنازة: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة.
وقد روي أن الجن كانت تنوح عليه في بيته الذي كان يسكنه.
وقد رآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك؟
فقال: غفر لي ولكل من أحبني إلى يوم القيامة.
وذكر الخطيب أنه كان له أخوات ثلاث وهن: مخة، ومضغة، وزبدة.
وكلهن عابدات زاهدات مثله، وأشد ورعا أيضا.
ذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد بن حنبل فقالت: إني ربما طفئ السراج وأنا أغزل على ضوء القمر فهل عليَّ عند البيع أن أميز هذا من هذا؟
فقال: إن كان بينهما فرق فميزي للمشتري.
وقالت له مرة إحداهن: ربما تمرُّ بنا مشاعل بني طاهر في الليل ونحن نغزل فنغزل الطاق والطاقين والطاقات فخلصني من ذلك.
فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار.
وسألته عن أنين المريض: أفيه شكوى؟
قال: لا ! إنما هو شكوى إلى الله عز وجل.
ثم خرجت فقال لابنه عبد الله: يا بني ! اذهب خلفها فاعلم لي من هذه المرأة؟
قال عبد الله: فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر، وإذا هي أخته مخة.
وروى الخطيب أيضا عن زبدة قالت: جاء ليلة أخي بشر فدخل برجله في الدار وبقيت الأخرى خارج الدار، فاستمر كذلك ليلته حتى أصبح.
فقيل له: فيم تفكرت ليلتك؟
فقال: تفكرت في بشر النصراني، وبشر اليهودي، وبشر المجوسي، وفي نفسي، لأن اسمي بشر، فقلت في نفسي: ما الذي سبق لي من الله حتى خصني بالإسلام من بينهم؟ فتفكرت في فضل الله عليَّ وحمدته أن هداني للإسلام، وجعلني ممن خصه به، وألبسني لباس أحبابه.
وقد ترجمه ابن عساكر فأطنب وأطيب وأطال من غير ملال، وقد ذكر له أشعارا حسنة، وذكر أنه كان يتمثل بهذه الأبيات:
تعاف القذى في الماء لا تستطيعه * وتكرع من حوض الذنوب فتشرب
وتؤثر من أكل الطعام ألذه * ولا تذكر المختار من أين يكسب
وترقد يا مسكين فوق نمارق * وفي حشوها نار عليك تلهب
فحتى متى لا تستفيق جهالة * وأنت ابن سبعين بدينك تلعب
وممن توفي فيها:
أحمد بن يونس.
وإسماعيل بن عمرو البجلي.
وسعيد بن منصور، صاحب السنن المشهورة، التي لا يشاركه فيها إلا القليل.
ومحمد بن الصباح، الدولابي، ولهن سنن أيضا.
وأبو الوليد الطيالسي.
وأبو الهذيل العلاف، المتكلم المعتزلي، والله أعلم.