→ يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان | البداية والنهاية – الجزء العاشر خالد بن عبد الله بن يزيد ابن كثير |
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة ← |
ابن أسد بن كرز بن عامر بن عبقري، أبو الهيثم، البجلي القسري الدمشقي، أمير مكة والحجاز للوليد ثم لسليمان، وأمير العراقين لهشام خمس عشرة سنة.
قال ابن عساكر: كانت داره بدمشق في مربعة القز، وتعرف اليوم بدار الشريف اليزيدي، وإليه ينسب الحمام الذي داخل باب توما.
روى عن أبيه، عن جده، أن رسول الله ﷺقال له: «يا أسد أتحب الجنة؟». قال: نعم !
قال: «فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك».
رواه أبو يعلى، عن عثمان بن أبي شيبة، عن هيثم، عن سيار بن أبي الحكم، أنه سمعه على المنبر يقول ذلك.
وممن روى عنه: إسماعيل بن أوسط، وإسماعيل بن أبي خالد، وحبيب بن أبي حبيب، وحميد الطويل.
وروي أنه روى عن جده، عن النبي ﷺفي تكفير المرض الذنوب.
وكانت أمه نصرانية، وذكره أبو بكر بن عياش في الأشراف فيمن أمه نصرانية.
وقال المدائني: أول ما عرف من رياسته أنه وطأ صبيا بدمشق بفرسه فحمله فأشهد طائفة من الناس أنه هو صاحبه، فإن مات فعليه ديته.
وقد استنابه الوليد على الحجاز من سنة تسع وثمانين إلى أن توفي الوليد ثم سليمان، وفي سنة ست ومائة استنابه هشام على العراق إلى سنة عشرين ومائة، وسلمه إلى يوسف بن عمر الذي ولاه مكانه فعاقبه وأخذ منه أموالا ثم أطلقه، وأقام بدمشق إلى المحرم من هذه السنة فسلمه الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر يستخلص منه خمسين ألف ألف، فمات تحت العقوبة البليغة، كسر قدميه ثم ساقيه ثم فخذيه، ثم صدره، فمات ولا يتكلم كلمة واحدة، ولا تأوه حتى خرجت روحه - رحمه الله -.
قال الليثي: عن أبيه، خطب خالد القسري يوما فأرتج عليه، فقال: أيها الناس ! إن هذا الكلام يجيء أحيانا ويعزب أحيانا، فيتسبب عند مجيئه سببه، ويتعذر عند عزوبه مطلبه، وقد يرد إلى السليط بيانه، ويثيب إلى الحصر كلامه، وسيعود إلينا ما تحبون، ونعود لكم كما تريدون.
وقال الأصمعي وغيره: خطب خالد القسري يوما بواسط فقال: يا أيها الناس ! تنافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكتسبوا بالمطل ذما، ولا تعتدُّوا بمعروف لم تعجلوه، ومهما تكن لأحد منكم نعمة عند أحد لم يبلغ شكرها فالله أحسن له جزاء، وأجزل عطاء، واعلموا أن حوائج الناس إليكم نعم فلا تملوها فتحول نقما، فإن أفضل المال ما كسب أجرا وأورث ذكرا.
ولو رأيتم المعروف لرأيتموه رجلا حسنا جميلا يسر الناس إذا نظروا إليه، ويفوق العالمين.
ولو رأيتم البخل لرأيتموه رجلا مشوها قبيحا تنفر منه القلوب، وتغض دونه الأبصار.
إنه من جاد ساد، ومن بخل ذل، وأكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، ومن عفا عن قدرة، وأفضل الناس من وصل عن قطيعة، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والفروع عند مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو.
وروى الأصمعي، عن عمر بن الهيثم، أن أعرابيا قدم على خالد فأنشده قصيدة امتدحه بها يقول فيها:
إليك ابن كرز الخير أقبلت راغبا * لتجبر مني ما وها وتبدَّدا
إلى الماجد البهلول ذي الحلم والندى * وأكرم خلق الله فرعا ومحتدا
إذا ما أناس قصروا بفعالهم * نهضت فلم تلقى هنالك مفقدا
فيالك بحرا يغمر الناس موجه * إذا يسأل المعروف جاش وأزبدا
بلوت ابن عبد الله في كل موطن * فألفيت خير الناس نفسا وأمجدا
فلو كان في الدنيا من الناس خالد * لجود بمعروف لكنت مخلدا
فلا تحرمني منك ما قد رجوته * فيصبح وجهي كالح اللون أربدا
قال: فحفظها خالد، فلما اجتمع الناس عند خالد قام الأعرابي ينشدها، فابتدره إليها خالد فأنشدها قبله وقال: أيها الشيخ ! إن هذا شعر قد سبقناك إليه.
فنهض الشيخ فولَّى ذاهبا فاتبعه خالد من يسمع ما يقول فإذا هو ينشد هذه الأبيات:
ألا في سبيل الله ما كنت أرتجي * لديه وما لاقيت من نكد الجهد
دخلت على بحر يجود بماله * ويعطي كثير المال في طلب الحمد
فخالفني الجد المشوم لشقوتي * وقاربني نحسي وفارقني سعدي
فلو كان لي رزق لديه لنلته * ولكن أمر من الواحد الفرد
فرده إلى خالد وأعلمه بما كان يقول فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقال الأصمعي: سأل أعرابي خالدا القسري أن يملأ له جرابه دقيقا فأمر بملئه له دراهم، فقيل للأعرابي حين خرج: ما فعل معك؟
فقال: سألته بما أشتهي فأمر لي بما يشتهي هو.
وقال بعضهم: بينما خالد يسير في موكبه إذ تلقاه أعرابي فسأله أن يضرب عنقه، فقال: ويحك ! ولم؟ أقطعت السبيل؟ أأخرجت يدا من طاعة؟
فكل ذلك يقول: لا !
قال: فلم؟
قال: من الفقر والفاقة.
فقال: سل حاجتك.
قال: ثلاثين ألفا.
فقال خالد: ما ربح أحد مثل ما ربحت اليوم، إني وضعت في نفسي أن يسألني مائة ألف، فسأل ثلاثين فربحت سبعين.
ارجعوا بنا اليوم، وأمر له بثلاثين ألفا.
وكان إذا جلس يوضع المال بين يديه ويقول: إن هذه الأموال ودائع لابد من تفرقتها.
وسقط خاتم لجاريته رابعة يساوي ثلاثين ألفا، في بالوعة الدار، فسألت أن تؤتى بمن يخرجه، فقال: إن يدك أكرم علي من أن تلبسه بعد ما صار إلى هذا الموضع القذر.
وأمر لها بخمسة آلاف دينار بدله، وقد كان لرابعة هذه من الحلي شيء عظيم، من جملة ذلك ياقوتة وجوهرة، كل واحدة بثلاثة وسبعين ألف دينار.
وقد روى البخاري في كتاب أفعال العباد، وابن أبي حاتم في كتاب السنة، وغير واحد ممن صنف في كتب السنة، أن خالد بن عبد الله القسري خطب الناس في عيد أضحى فقال: أيها الناس ! ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.
قال غير واحد من الأئمة: كان الجعد بن درهم من أهل الشام، وهو مؤدب مروان الحمار، ولهذا يقال له: مروان الجعدي، فنسب إليه، وهو شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية، الذين يقولون: إن الله في كل مكان بذاته تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وكان الجعد بن درهم قد تلقى هذا المذهب الخبيث عن رجل يقال له: أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن أعصم، عن خاله لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي ﷺفي مشط وماشطه وجف طلعة ذكر له، وتحت راعوفة ببئر ذي أروان الذي كان ماؤها نقاعة الحناء.
وقد ثبت الحديث بذلك في الصحيحين وغيرهما.
وجاء في بعض الأحاديث: أن الله تعالى أنزل بسبب ذلك سورتي المعوذتين.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا محمد بن يزيد الرفاعي، سمعت أبا بكر بن عياش، قال: رأيت خالدا القسري حين أتي بالمغيرة وأصحابه، وقد وضع له سرير في المسجد، فجلس عليه، ثم أمر برجل من أصحابه فضرب عنقه ثم قال للمغيرة: أحيه - وكان المغيرة يزعم أنه يحيي الموتى -.
فقال له: والله أصلحك الله ما أحيي الموتى.
قال: لتحيينه أو لأضربن عنقك.
قال: والله ما أقدر على ذلك.
ثم أمر بطن قصب فأضرموا فيه نارا ثم قال للمغيرة: أعتنقه.
فأبى، فعدا رجل من أصحابه فأعتنقه، قال أبو بكر: فرأيت النار تأكله وهو يشير بالسبابة.
قال خالد: هذا والله أحق بالرياسة منك.
ثم قتله وقتل أصحابه.
وقال المدائني: أتي خالد بن عبد الله برجل تنبأ بالكوفة فقيل له: ما علامة نبوتك؟
قال: قد نزل عليَّ قرآن.
قال: إنا أعطياك الكماهر، فصل لربك ولا تجاهر، ولا تطع كل كافر وفاجر.
فأمر به فصلب، فقال وهو يصلب: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، فأنا ضامن لك ألا تعود.
وقال المبرد: أتي خالد بشاب قد وجد في دار قوم وادعي عليه السرقة، فسأله فاعترف، فأمر بقطع يده، فتقدمت حسناء فقالت:
أخالد قد أوطأت والله عثرة * وما العاشق المسكين فينا بسارق
أقرَّ بما لم يجنه غير أنه * رأى القطع أولى من فضيحة عاشق
فأمر خالد بإحضار أبيها فزوجها من ذلك الغلام، وأمهرها عنه عشرة آلاف درهم.
وقال الأصمعي: دخل أعرابي على خالد فقال: إني قد مدحتك ببيتين ولست أنشدهما إلا بعشرة آلاف وخادم.
فقال: نعم !
فأنشأ يقول:
لزمت نعم حتى كأنك لم تكن * سمعت من الأشياء شيئا سوى نعم
وأنكرت لا حتى كأنك لم تكن * سمعت بها في سالف الدهر والأمم
قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم وخادم يحملها.
قال: ودخل عليه أعرابي فقال له: سل حاجتك.
فقال: مائة ألف.
فقال: أكثرت حط منها.
قال: أضع تسعين ألفا.
فتعجب منه خالد فقال: أيها الأمير ! سألتك على قدرك، ووضعت على قدري.
فقال له: لن تغلبني أبدا، وأمر له بمائة ألف.
قال: ودخل عليه أعرابي، فقال: إني قد قلت فيك شعرا وأنا أستصغره فيك.
فقال: قل.
فأنشأ يقول:
تعرضت لي بالجود حتى نعشتني * وأعطيتني حتى ظننتك تلعب
فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى * حليف الندى ما للندى عنك مذهب
فقال: سل حاجتك.
قال: عليَّ خمسون ألف دينار.
فقال: قد أمرت لك بها وأضعفتها لك، فأعطاه مائة ألف.
قال أبو الطيب محمد بن إسحق بن يحيى الوساي: دخل أعرابي على خالد القسري فأنشده:
كتبت نعم ببابك فهي تدعو * إليك الناس مسفرة النقاب
وقلت للا عليك بباب غيري * فإنك لن تري أبدا ببابي
قال: فأعطاه على كل بيت خمسين ألفا.
وقد قال فيه ابن معين: كان رجل سوء يقع في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
وذكر الأصمعي، عن أبيه: أن خالدا حفر بئرا بمكة ادَّعى فضلها على زمزم، وله في رواية عنه: تفضيل الخليفة على الرسول، وهذا كفر إلا أن يريد بكلامه غير ما يبدو منه، والله أعلم.
والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه، فإنه كان قائما في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد، وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح، لأن صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ومغالاة في أهل البيت، وربما لا يفهم أحد من كلامه ما فيه من التشيع، وقد أغتر به شيخنا الذهبي فمدحه بالحفظ وغيره.
وقد ذكر ابن جرير وابن عساكر وغيرهما أن الوليد بن يزيد كان قد عزم على الحج في إمارته فمن نيته أن يشرب الخمر على ظهر الكعبة، فلما بلغ ذلك جماعة من الأمراء اجتمعوا على قتله وتولية غيره من الجماعة، فحذر خالد أمير المؤمنين منهم، فسأله أن يسميهم فأبى عليه فعاقبه عقابا شديدا، ثم بعث به إلى يوسف بن عمر فعاقبه حتى مات شر قتلة وأسوئها، وذلك في محرم من هذه السنة - أعني سنة ست وعشرين ومائة -.
وذكره القاضي ابن خلكان في الوفيات، وقال: كان متهما في دينه، وقد بنى لأمه كنيسة في داره.
قال فيه بعض الشعراء وقال صاحب الأعيان: كان في نسبه يهود فانتموا إلى القرب، وكان يقرب من شق و سطيح.
قال القاضي بن خلكان: وقد كانا ابني خالة، وعاش كل منهما ستمائة، وولدا في يوم واحد، وذلك يوم ماتت طريفة بنت الحر بعد ما تفلت في فم كل منهما وقالت: إنه سيقوم مقامي في الكهانة، ثم ماتت من يومها.
وممن توفي في هذه السنة: جبلة بن سحيم، ودارج أبو السمح، وسعيد بن مسروق، في قول، وسليمان بن حبيب المحاربي، قاضي دمشق، وعبد الرحمن بن قاسم، شيخ مالك، وعبيد الله بن أبي يزيد، وعمرو بن دينار، وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل.