→ ثم دخلت سنة ست وثلاثون ومائتين | البداية والنهاية – الجزء العاشر ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين ابن كثير |
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين ← |
فيها: قبض يوسف بن محمد بن يوسف نائب أرمينية على البطريق الكبير، وبعثه إلى نائب الخليفة، واتفق بعد بعثه إياه أن سقط ثلج عظيم على تلك البلاد، فتحزب أهل تلك الطريق وجاؤوا فحاصروا البلد التي بها يوسف، فخرج إليهم ليقاتلهم فقتلوه، وطائفة كبيرة من المسلمين الذين معه، وهلك كثير من الناس من شدة البرد، ولما بلغ المتوكل ما وقع من هذا الأمر الفظيع أرسل إلى أهل تلك الناحية بغا الكبير من جيش كثيف جدا، فقتل من قتل من أهل تلك الناحية ممن حاصر المدينة نحوا من ثلاثين ألفا، وأسر منهم طائفةً كبيرةً، ثم سار إلى بلاد الباق من كور البسفرجان، وسلك إلى مدن كثيرة كبار، ومهد المماليك، ووطد البلاد والنواحي، وفي صفر منها غضب المتوكل على ابن أبي داؤد القاضي المعتزل، وكان على المظالم فعزله عنها، واستدعى بيحيى بن أكثم فولاه قضاة القضاة والمظالم أيضا.
وفي ربيع الأول: أمر الخليفة بالاحتياط على ضياع ابن أبي دؤاد، وأخذ ابنه الوليد محمد فحبسه في يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر، وأمر بمصادرته فحمل مائة ألف وعشرين ألف دينار، ومن الجواهر النفيسة ما يقوم بعشرين ألف دينار، ثم صولح على ستة عشر ألف ألف درهم.
وكان أبو دؤاد قد أصابه الفالج كما ذكرنا، ثم نفي أهله من سامرا إلى بغداد مهانين.
قال ابن جرير: فقال في ذلك أبو العتاهية:
لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد * وكان عزمك عزما فيه توفيق
لكان في الفقه شغل لو قنعت به * عن أن تقول كتاب الله مخلوق
ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم * ما كان في الفرع لولا الجهل والموق
وفي عيد الفطر منها: أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، والجمع بين رأسه وجسده، وأن يسلم إلى أوليائه ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، واجتمع في جنازته خلقٌ كثيرٌ جدا، وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وكان يوما مشهودا، ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به وأرهج العامة بذلك فرحا وسرورا، فكتب المتوكل إلى نائبه يأمر بردعهم عن تعاطي مثل هذا وعن المغالاة في البشر، ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام، والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت.
وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، ثم أظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل، واستدعاه من بغداد إليه فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية، فلم يقبلها وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه، فاستحيا منه أحمد كثيرا فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلا فيه، ثم نزعها نزعا عنيفا وهو يبكي رحمه الله تعالى.
وجعل المتوكل في كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص، ويظن أنه يأكل منه وكان أحمد لا يأكل لهم طعاما بل كان صائما مواصلا طاويا تلك الأيام لأنه لم يتيسر له شيء يرضى أكله، ولكن كان ابنه صالح وعبد الله يقبلان تلك الجوائز وهو لا يشعر بشي من ذلك، ولولا أنهم أسرعوا الأوبة إلى بغداد لخشي على أحمد أن يموت جوعا، وارتفعت السنة جدا أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لا يولي أحدا إلا بعد مشورة الإمام أحمد.
وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة وعلماء الناس، ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الأثر، وكان قد ولي من جهته حيان بن بشر قضاء الشرقية، وسور بن عبد الله قضاء الجانب الغربي، وكان كلاهما أعورا فقال في ذلك بعض أصحاب ابن أبي دؤاد:
رأيت من العجائب قاضيين * هما أحدوثة في الخافقين
هما اقتسما العمى نصفين قدّا * كما اقتسما قضاء الجانبين
ويحسب منهما من هز رأسا * لينظر في مواريث ودين
كأنك وضعت عليه دنا * فتحت بزاله من فرد عين
هما فأل الزمان بهلك يحيى * إذ افتتح القضاء بأعورين
وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرمني، وحج بالناس علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور أمير الحجاز.
وفيها: توفي حاتم الأصم، وممن توفي فيها: عبد الأعلى بن حماد، وعبيد الله بن معاذ العنبري، وأبو كامل الفضيل بن الحسن الجحدري.