→ عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور | البداية والنهاية – الجزء العاشر الفضل بن يحيى ابن كثير |
ومحمد بن أمية ← |
ابن خالد بن برمك، أخو جعفر وإخوته، كان هو والرشيد يتراضعان.
أرضعت الخيزران فضلا، وأرضعت أم الفضل وهي: زبيدة بنت بن بريه هارون الرشيد.
وكانت زبيدة هذه من مولدات بتبين البرية، وقد قال في ذلك بعض الشعراء:
كفى لك فضلا أن أفضل حرة * غذتك بثدي والخليفة واحد
لقد زنت يحيى في المشاهد كلها * كما زان يحيى خالدا في المشاهد
قالوا: وكان الفضل أكرم من أخيه جعفر، ولكن كان فيه كبر شديد، وكان عبوسا، وكان جعفر أحسن بشرا منه، وأطلق وجها، وأقل عطاء.
وكان الناس إليه أميل، ولكن خصلة الكرم تغطي جميع القبائح، فهي تستر تلك الخصلة التي كانت في الفضل.
وقد وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم فعابه أبوه على ذلك، فقال: يا أبت ! إن هذا كان يصحبني في العسر واليسر والعيش الخشن، واستمر معي في هذا الحال فأحسن صحبتي.
وقد قال بعض الشعراء:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا * من كان يعتادهم في المنزل الخشن
ووهب يوما لبعض الأدباء عشرة آلاف دينار فبكى الرجل فقال له: مم تبكي، أستقللتها؟
قال: لا والله، ولكني أبكي أن الأرض تأكل مثلك، أو تواري مثلك.
وقال علي بن الجهم، عن أبيه: أصبحت يوما لا أملك شيئا حتى ولا علف الدابة.
فقصدت الفضل بن يحيى، فإذا هو قد أقبل من دار الخلافة في موكب من الناس، فلما رآني رحب بي وقال: هلم.
فسرت معه، فلما كان ببعض الطريق سمع غلاما يدعو جارية من دار، وإذا هو يدعوها باسم جارية له يحبها، فانزعج لذلك وشكا إلي ما لقي من ذلك.
فقلت: أصابك ما أصاب أخي بني عامر حيث يقول:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى * فهيج أحزان الفؤاد ولا يدري
دعا باسم ليلى غيرها وكأنما * أطار بليلى طائرا كان في صدري
فقال: اكتب لي هذين البيتين.
قال: فذهبت إلى بقال فرهنت عنده خاتمي على ثمن ورقة وكتبتهما له، فأخذهما وقال: انطلق راشدا.
فرجعت إلى منزلي فقال لي غلامي: هات خاتمك حتى نرهنه على طعام لنا وعلف للدابة، فقلت: إني رهنته.
فما أمسينا حتى أرسل إلي الفضل بثلاثين ألفا من الذهب، وعشرة آلاف من الورق، أجراه عليَّ كل شهر، وأسلفني شهرا.
ودخل على الفضل يوما بعض الأكابر فأكرمه الفضل وأجلسه معه على السرير، فشكا إليه الرجل دينا عليه وسأله أن يكلم في ذلك أمير المؤمنين.
فقال: نعم، وكم دينك؟
قال: ثلاثمائة ألف درهم.
فخرج من عنده وهو مهموم لضعف رده عليه، ثم مال إلى بعض إخوانه فاستراح عنده ثم رجع إلى منزله فإذا المال قد سبقه إلى داره.
وما أحسن ما قال فيه بعض الشعراء:
لك الفضل يا فضل بن يحيى بن خالد * وما كل من يدعى بفضل له فضل
رأى الله فضلا منك في الناس واسعا * فسماك فضلا فالتقى الاسم والفعل
وقد كان الفضل أكبر رتبة عند الرشيد من جعفر، وكان جعفر أحظى عند الرشيد منه وأخص.
وقد ولي الفضل أعمالا كبارا منها نيابة خراسان وغيرها.
ولما قتل الرشيد البرامكة وحبسهم جلد الفضل هذا مائة سوط وخلَّده في الحبس حتى مات في هذه السنة، قبل الرشيد بشهور خمسة في الرقة، وصلى عليه بالقصر الذي مات فيه أصحابه، ثم أخرجت جنازته فصلى عليها الناس، ودفن هناك، وله خمس وأربعون سنة.
وكان سبب موته ثقل أصابه في لسانه اشتد به يوم الخميس ويوم الجمعة.
وتوفي قبل أذان الغداة من يوم السبت.
قال ابن جرير: وذلك في المحرم من سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وقال ابن الجوزي: في سنة ثنتين وتسعين، فالله أعلم.
وقد أطال ابن خلكان ترجمته وذكر طرفا صالحا من محاسنه ومكارمه، من ذلك: أنه ورد بلخ حين كان نائبا على خراسان، وكان بها بيت النار التي كانت تعبدها المجوس، وقد كان جده برمك من خدامها، فهدم بعضه ولم يتمكن من هدمه كله، لقوة إحكامه، وبنى مكانه مسجدا لله تعالى.
وذكر أنه كان يتمثل في السجن بهذه الأبيات ويبكي:
إلى الله فيما نالنا نرفع الشكوى * ففي يده كشف المضرَّة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة * عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا