→ ثناء الأئمة على الإمام أحمد بن حنبل | البداية والنهاية – الجزء العاشر ما كان من أمر الإمام أحمد بعد المحنة ابن كثير |
وفاة الإمام أحمد بن حنبل ← |
حين خرج من دار الخلافة صار إلى منزله فدووي حتى برأ، ولله الحمد، ولزم منزله فلا يخرج منه إلى جمعة ولا جماعة، وامتنع من التحديث، وكانت غلته من ملك له في كل شهر سبعة عشر درهما ينفقها على عياله ويتقنع بذلك، رحمه الله، صابرا محتسبا.
ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم، وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق، فلما ولي المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته، فإنه كان محبا للسنة وأهلها، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق: لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن، ثم كتب إلى نائبه ببغداد - وهو: إسحاق بن إبراهيم - أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه، فاستدعى إسحاق بالإمام أحمد إليه فأكرمه وعظمه، لما يعلم من إعظام الخليفة له وإجلاله إياه، وسأله فيما بينه وبينه عن القرآن فقال له أحمد: سؤالك هذا سؤال تعنت، أو استرشاد؟
فقال: بل سؤال استرشاد.
فقال: هو كلام الله منزل غير مخلوق، فسكن إلى قوله في ذلك، ثم جهزه إلى الخليفة إلى سر من رأى ثم سبقه إليه. وبلغه أن أحمد اجتاز بابنه محمد بن إسحاق فلم يأته ولم يسلم عليه، فغضب إسحاق بن إبراهيم من ذلك وشكاه إلى الخليفة فقال المتوكل: يرد إن كان قد وطئ بساطي، فرجع الإمام أحمد من الطريق إلى بغداد.
وقد كان الإمام أحمد كارها لمجيئه إليهم، ولكن لم يهن ذلك على كثير من الناس، وإنما كان رجوعه عن قول إسحاق بن إبراهيم الذي كان هو السبب في ضربه.
ثم إن رجلا من المبتدعة يقال له: ابن البلخي وشى إلى الخليفة شيئا فقال: إن رجلا من العلويين قد أوى إلى منزل أحمد بن حنبل وهو يبايع له الناس في الباطن. فأمر الخليفة نائب بغداد أن يكبس منزل أحمد من الليل، فلم يشعروا إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب حتى من فوق الأسطحة، فوجدوا الإمام أحمد جالسا في داره مع عياله فسألوه عما ذكر عنه.
فقال: ليس عندي من هذا علم، وليس من هذا شيء، ولا هذا من نيتي، وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية، وفي عسري ويسري، ومنشطي ومكرهي، وأثره عليَّ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار، في كلام كثير. ففتشوا منزله حتى مكان الكتب وبيوت النساء والأسطحة وغيرها، فلم يروا شيئا.
فلما بلغ المتوكل ذلك وعلم براءته مما نسب إليه، علم أنهم يكذبون عليه كثيرا. فبعث إليه يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة - وهو: أحد الحجبة - بعشرة آلاف درهم من الخليفة.
وقال: هو يقرأ عليك السلام ويقول: استنفق هذه، فامتنع من قبولها.
فقال: يا أبا عبد الله ! إني أخشى من ردك إياها أن يقع وحشة بينك وبينه، والمصلحة لك قبولها، فوضعها عنده ثم ذهب، فلما كان من آخر الليل استدعى أحمد أهله وبني عمه وعياله وقال: لم أنم هذه الليلة من هذا المال، فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم من أهل بغداد والبصرة، ثم أصبح ففرقها في الناس ما بين الخمسين إلى المائة والمائتين، فلم يبق منها درهما وأعطى منها لأبي أيوب وأبي سعيد الأشج، وتصدق بالكيس الذي كانت فيه، ولم يعط منها لأهله شيئا وهم في غاية الفقر والجهد، وجاء بنوا ابنه فقال: أعطني درهما. فنظر أحمد إلى ابنه صالح فتناول صالح قطعة فأعطاها الصبي فسكت أحمد.
وبلغ الخليفة أنه تصدق بالجائزة كلها حتى كيسها، فقال علي بن الجهم: يا أمير المؤمنين إنه قد قبلها منك، وتصدق بها عنك، وماذا يصنع أحمد بالمال؟ إنما يكفيه رغيف.
فقال: صدقت.
فلما مات إسحاق بن إبراهيم، وابنه محمد ولم يكن بينهما إلا القريب، وتولى نيابة بغداد عبد الله بن إسحاق كتب المتوكل إليه أن يحمل إليه الإمام أحمد، فقال لأحمد في ذلك، فقال: إني شيخ كبير وضعيف، فرد الجواب على الخليفة بذلك، فأرسل يعزم عليه لتأتيني، وكتب إلى أحمد: إني أحب أن آنس بقربك، وبالنظر إليك، ويحصل لي بركة دعائك.
فسار إليه الإمام أحمد - وهو عليل - في بنيه، وبعض أهله، فلما قارب العسكر تلقاه وصيف الخادم في موكب عظيم، فسلم وصيف على الإمام أحمد فرد السلام.
وقال له وصيف: قد أمكنك الله من عدوك ابن أبي داؤد، فلم يرد عليه جوابا، وجعل ابنه يدعو الله للخليفة ولوصيف، فلما وصلوا إلى العسكر بسر من رأى، أنزل أحمد في دار إيتاخ، فلما علم بذلك ارتحل منها، وأمر أن يستكري له دار غيرها، وكان رؤوس الأمراء في كل يوم يحضرون عنده ويبلغونه عن الخليفة السلام، ولا يدخلون عليه حتى يقلعون ما عليهم من الزينة والسلاح.
وبعث إليه الخليفة بالمفارش الوطيئة وغيرها من الآلات التي تليق بتلك الدار العظيمة، وأراد منه الخليفة أن يقيم هناك ليحدث الناس عوضا عما فاتهم منه في أيام المحنة وما بعدها من السنين المتطاولة، فاعتذر إليه بأنه عليل وأسنانه تتحرك، وهو ضعيف.
وكان الخليفة يبعث إليه في كل يوم مائدة فيها ألوان الأطعمة، والفاكهة والثلج، مما يقاوم مائة وعشرين درهما في كل يوم، والخليفة يحسب أنه يأكل من ذلك، ولم يكن أحمد يأكل شيئا من ذلك بالكلية، بل كان صائما يطوي، فمكث ثمانية أيام لم يستطعم بطعام، ومع ذلك هو مريض، ثم أقسم عليه ولده حتى شرب قليلا من السويق بعد ثمانية أيام.
وجاء عبيد الله بن يحيى بن خاقان بمال جزيل من الخليفة جائزة له فامتنع من قبوله، فألح عليه الأمير فلم يقبل.
فأخذها الأمير ففرقها على بنيه وأهله، وقال: إنه لا يمكن ردها على الخليفة.
وكتب الخليفة لأهله وأولاده في كل شهر بأربعة آلاف درهم، فمانع أبو عبد الله الخليفة، فقال الخليفة: لا بد من ذلك، وما هذا إلا لولدك.
فأمسك أبو عبد الله عن ممانعته، ثم أخذ يلوم أهله وعمه، وقال لهم: إنما بقي لنا أيام قلائل، وكأننا قد نزل بنا الموت فإما إلى جنة وإما إلى نار، فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء. في كلام طويل يعظهم به.
فاحتجوا عليه بالحديث الصحيح: «ما جاءك من هذا المال، وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه». وأن ابن عمر وابن عباس قبلا جوائز السلطان.
فقال: وما هذا وذاك سواء، ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه وليس بظلم ولا جور لم أبال.
ولما استمر ضعفه جعل المتوكل يبعث إليه بابن ماسويه المتطبب لينظر في مرضه، فرجع إليه فقال: يا أمير المؤمنين ! إن أحمد ليس به علة في بدنه، وإنما علته من قلة الطعام وكثرة الصيام والعبادة.
فسكت المتوكل ثم سألت أم الخليفة منه أن ترى الإمام أحمد، فبعث المتوكل إليه يسأله أن يجتمع بابنه المعتز ويدعو له، وليكن في حجره.
فتمنع من ذلك، ثم أجاب إليه رجاء أن يعجل برجوعه إلى أهله ببغداد.
وبعث الخليفة إليه بخلعة سنية ومركوب من مراكبه، فامتنع من ركوبه لأنه عليه ميثرة نمور فجيء ببغل لبعض التجار فركبه وجاء إلى مجلس المعتز، وقد جلس الخليفة وأمه في ناحية في ذلك المجلس، من وراء ستر رقيق، فلما جاء أحمد قال: سلام عليكم.
وجلس ولم يسلم عليه بالإمرة، فقالت أم الخليفة: الله الله يا بني ! في هذا الرجل ترده إلى أهله، فإن هذا ليس ممن يريد ما أنتم فيه.
وحين رأى المتوكل أحمد قال لأمه: يا أمه قد تأنست الدار.
وجاء الخادم ومعه خلعة سنية مبطنة وثوب وقلنسوة وطيلسان فألبسها أحمد بيده، وأحمد لا يتحرك بالكلية.
قال الإمام أحمد: ولما جلست إلى المعتز قال مؤدبه: أصلح الله الأمير، هذا الذي أمر الخليفة أن يكون مؤدبك !
فقال: إن علمني شيئا تعلمته.
قال أحمد: فتعجبت من ذكائه في صغره لأنه كان صغيرا جدا، فخرج أحمد عنهم وهو يستغفر الله ويستعيذ بالله من مقته وغضبه.
ثم بعد أيام أذن له الخليفة بالانصراف وهيأ له حزاقة فلم يقبل أن ينحدر فيها، بل ركب في زورق فدخل بغداد مختفيا، وأمر أن تباع تلك الخلعة، وأن يتصدق بثمنها على الفقراء والمساكين.
وجعل أياما يتألم من اجتماعه بهم، ويقول: سلمت منهم طول عمري، ثم ابتليت بهم في آخره.
وكان قد جاع عندهم جوعا عظيما كثيرا حتى كاد أن يقتله الجوع.
وقد قال بعض الأمراء للمتوكل: إن أحمد لا يأكل لك طعاما، ولا يشرب لك شرابا، ولا يجلس على فرشك، ويحرم ما تشربه.
فقال: والله لو نشر المعتصم وكلمني في أحمد ما قبلت منه.
وجعلت رسل الخليفة تفد إليه في كل يوم تستعلم أخباره وكيف حاله، وجعل يستفتيه في أموال ابن أبي داؤد فلا يجيب بشيء، ثم إن المتوكل أخرج ابن أبي داؤد من سر من رأى إلى بغداد بعد أن أشهد عليه نفسه ببيع ضياعه وأملاكه وأخذ أمواله كلها.
قال عبد الله بن أحمد: وحين رجع أبي من سامرا وجدنا عينيه قد دخلتا في موقيه، وما رجعت إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، وامتنع أن يدخل بيت قرابته أو يدخل بيتا هم فيه أو ينتفع بشيء مما هم فيه لأجل قبولهم أموال السلطان.
وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم مكث إلى سنة وفاته، وكل يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره في أشياء تقع له.
ولما قدم المتوكل بغداد بعث إليه ابن خاقان ومعه ألف دينار ليفرقها على من يرى، فامتنع من قبولها وتفرقتها، وقال: إن أمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره، فردها.
وكتب رجل رقعة إلى المتوكل يقول: يا أمير المؤمنين ! إن أحمد يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة.
فكتب فيها المتوكل: أما المأمون فإنه خلط فسلط الناس على نفسه، وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه.
ثم أمر أن يضرب الرجل لذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط، فأخذه عبد الله بن إسحق بن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط.
فقال له الخليفة: لم ضربته خمسمائة سوط؟
فقال: مائتين لطاعتك، ومائتين لطاعة الله، ومائة لكونه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل.
وقد كتب الخليفة إلى أحمد يسأله عن القول في القرآن سؤال استرشاد واستفادة لا سؤال تعنت ولا امتحان ولا عناد، فكتب إليه أحمد رحمه الله رسالة حسنة فيها آثار عن الصحابة وغيرهم، وأحاديث مرفوعة.
وقد أوردها ابنه صالح في المحنة التي ساقها، وهي مروية عنه وقد نقلها غير واحد من الحفاظ.