→ المنذر بن عبد الله بن المنذر | البداية والنهاية – الجزء العاشر ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة ابن كثير |
إبراهيم بن صالح ← |
فيها: كان ظهور يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ببلاد الديلم، واتبعه خلق كثير وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والأمصار، فانزعج لذلك الرشيد وقلق من أمره، فندب إليه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في خمسين ألفا، وولاه كور الجبل والري وجرجان وطبرستان وقومس وغير ذلك.
فسار الفضل بن يحيى إلى تلك الناحية في أبهة عظيمة، وكُتُب الرشيد تلحقه مع البرد في كل منزلة، وأنواع التحف والبر، وكَاتَب الرشيد صاحب الديلم ووعده بألف ألف درهم إن هو سهل خروج يحيى إليهم، وكتب الفضل إلى يحيى بن عبد الله يعده ويمنيه ويؤمله ويرجيه، وأنه إن خرج إليه أن يقيم له العذر عند الرشيد.
فامتنع يحيى أن يخرج إليهم حتى يكتب له الرشيد كتاب أمان بيده.
فكتب الفضل إلى الرشيد بذلك ففرح الرشيد ووقع منه موقعا عظيما.
وكتب الأمان بيده وأشهد عليه القضاة والفقهاء ومشيخة بني هاشم، منهم: عبد الصمد بن علي، وبعث الأمان وأرسل معه جوائز وتحفا كثيرةً إليهم، ليدفعوا ذلك جميعه إليه.
ففعلوا وسلمه إليه فدخلوا به بغداد، وتلقاه الرشيد وأكرمه وأجزل له في العطاء، وخدمه آل برمك خدمة عظيمة، بحيث أن يحيى بن خالد كان يقول: خدمته بنفسي وولدي.
وعظم الفضل عند الرشيد جدا بهذه الفعلة حيث سعى بالصلح بين العباسين والفاطميين، ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة بن يحيى ويشكره على صنيعه هذا:
ظفرت فلا شلت يد برمكية * رتقت بها الفتق الذي بين هاشم
على حين أعيا الراتقين التئامه * فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم
فأصبحت قد فازت يداك بخطة * من المجد باق ذكرها في المواسم
وما زال قدح الملك يخرج فائزا * لكم كلما ضمت قداح المساهم
قالوا: ثم إن الرشيد تنكر ليحيى بن عبد الله بن حسن وتغير عليه، ويقال: إنه سجنه ثم استحضره وعنده جماعات من الهاشمين، وأحضر الأمان الذي بعث به إليه فسأل الرشيد محمد بن الحسن عن الأمان: أصحيح هو؟
قال: نعم !
فتغيظ الرشيد عليه.
وقال أبو البختري: ليس هذا الأمان بشيء فأحكم فيه بما شئت، ومزق الأمان.
وبصق فيه أبو البختري، وأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله فقال: هيه هيه، وهو يبتسم تبسم الغضب، وقال: إن الناس يزعمون أنا سممناك.
فقال يحيى: يا أمير المؤمنين ! إن لنا قرابة ورحما وحقا، فعلام تعذبني وتحبسني؟
فرق له الرشيد، فاعترض بكار بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير فقال: يا أمير المؤمنين ! لا يغرنك هذا الكلام من هذا، فإنه عاص شاق، وإنما هذا منه مكر وخبث، وقد أفسد علينا مدينتنا وأظهر فيها العصيان.
فقال له يحيى: ومن أنتم عافاكم الله؟ وإنما هاجر أبوك إلى المدينة بآبائي وآباء هذا.
ثم قال يحيى: يا أمير المؤمنين ! لقد جاءني هذا حين قتل أخي محمد بن عبد الله فقال: لعن الله قاتله، وأنشدني فيه نحوا من عشرين بيتا، وقال لي: إن تحركت إلى هذا الأمر فأنا من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة وأيدينا معك؟
قال: فتغير وجه الرشيد ووجه الزبيري وأنكر وشرع يحلف بالأيمان المغلظة إنه لكاذب في ذلك، وتحير الرشيد.
ثم قال ليحيى: أتحفظ شيئا من المرثية؟
قال: نعم. وأنشده منها جانبا.
فازداد الزبيري في الإنكار، فقال له يحيى بن عبد الله: فقل: إن كنت كاذبا فقد برئت من حول الله وقوته، ووكلني الله إلى حولي وقوتي.
فامتنع من الحلف بذلك، فعزم عليه الرشيد وتغيظ عليه، فحلف بذلك فما كان إلا أن خرج من عند الرشيد فرماه الله بالفالج فمات من ساعته.
ويقال: إن امرأته غمت وجهه بمخدة فقتله الله.
ثم إن الرشيد أطلق يحيى بن عبد الله وأطلق له مائة ألف دينار، ويقال: إنما حبسه بعض يوم، وقيل: ثلاثة أيام.
وكان جملة ما وصله من المال من الرشيد أربعمائة ألف دينار من بيت المال، وعاش بعد ذلك كله شهرا واحدا ثم مات رحمه الله.
وفيها: وقعت فتنة عظيمة بالشام بين الننزارية وهم: قيس، واليمانية وهم: يمن، وهذا كان أول بدو أمر العشيرتين بحوران، وهم: قيس ويمن، أعادوا ما كانوا عليه في الجاهلية في هذا الآن، وقتل منهم في هذه السنة بشر كثير.
وكان على نيابة الشام كلها من جهة الرشيد ابن عمه موسى بن عيسى، وقيل: عبد الصمد بن علي، فالله أعلم.
وكان على نيابة دمشق بخصوصها سندي بن سهل أحد موالي جعفر المنصور، وقد هدم سور دمشق حين ثارت الفتنة خوفا من أن يتغلب عليها أبو الهيذام المزي رأس القيسية، وقد كان مزي هذا دميم الخلق.
قال الجاحظ: وكان لا يحلف المكاري ولا الملاح ولا الحائك، ويقول: القول قولهم، ويستخير الله في الحمال ومعلم الكتاب.
وقد توفي سنة أربع ومائتين.
فلما تفاقم الأمر بعث الرشيد من جهته موسى بن يحيى بن خالد ومعه جماعة من القواد ورؤوس الكتاب، فأصلحوا بين الناس وهدأت الفتنة واستقام أمر الرعية، وحملوا جماعات من رؤوس الفتنة إلى الرشيد فرد أمرهم إلى يحيى بن خالد فعفا عنهم وأطلقهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
قد هاجت الشام هيجا * يشيب رأس وليده
فصب موسى عليها * بخيله وجنوده
فدانت الشام لما * أتى بسنح وحيده
هذا الجواد الذي بـ * ـذِ كل جود بجوده
أعده جود أبيه * يحيى وجود جدوده
فجاد موسى بن يحيى * بطارف وتليده
ونال موسى ذرى المجـ * ـد وهو حشو مهوده
خصصته بمديحي * منثوره وقصيده
من البرامك عودا * له فأكرم بعوده
حووا على الشعر طرا * خفيفه ومديده
وفيها: عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن خراسان وولاها حمزة بن مالك بن الهيثم الخزاعي الملقب: بالعروس.
وفيها: ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد نيابة مصر، فاستناب عليها جعفر عمر بن مهران، وكان رديء الخلق رديء الشكل زمن الكف أحول، وكان سبب ولايته إياها أن نائبها موسى بن عيسى كان قد عزم على خلع الرشيد، فقال الرشيد: والله لأعزلنه ولأولين عليها أحسن الناس.
فاستدعى عمر بن مهران هذا فولاه عليها عن نائبه جعفر بن يحيى البرمكي.
فسار إليها على بغل وغلامه أبو درة على بغل آخر، فدخلها كذلك فانتهى إلى مجلس نائبها موسى بن عيسى فجلس في أخريات الناس، فلما انفض الناس أقبل عليه موسى بن عيسى وهو لا يعرف من هو، فقال: ألك حاجة يا شيخ؟
قال: نعم ! أصلح الله الأمير.
ثم دفع الكتب إليه فلما قرأها قال: أنت عمر بن مهران؟
قال: نعم !
قال: لعن الله فرعون حين قال: { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [الزخرف: 51] .
ثم سلم إليه العمل وارتحل منها، وأقبل عمر بن مهران على عمله، وكان لا يقبل شيئا من الهدايا إلا ما كان ذهبا أو فضة أو قماشا، ثم يكتب على كل هدية اسم مهديها، ثم يطالب بالخراج ويلح في طلبه عليهم، وكان بعضهم يماطله به، فأقسم لا يماطله أحد إلا فعل به وفعل.
فجمع من ذلك شيئا كثيرا، وكان يبعث ما جمعه إلى بغداد، ومن ماطله بعثه إلى بغداد، فتأدب الناس معه.
ثم جاءهم القسط الثاني فعجز كثير منهم عن الأداء فجعل يستحضر ما كانوا أدوه إليه من الهدايا، فإن كان نقدا أداه عنهم، وإن كان برا باعه وأداه عنهم.
وقال لهم: إني إنما ادخرت هذا لكم إلى وقت حاجتكم.
ثم أكمل استخراج جميع الخراج بديار مصر ولم يفعل ذلك أحد من قبله، ثم انصرف عنها لأنه كان قد شرط على الرشيد أنه إذا مهد البلاد وجبى الخراج، فذاك إذنه في الانصراف.
ولم يكن معه بالديار المصرية جيش ولا غيره سوى مولاه أبو درة وحاجبه، وهو منفذ أموره.
وفيها: غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك ففتح حصنا.
وفيها: حجت زبيدة زوجة الرشيد ومعها أخوها، وكان أمير الحج سليمان بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد.
وفيها توفي: