→ ثم دخلت سنة ثنتين وستين ومائة | البداية والنهاية – الجزء العاشر إبراهيم بن أدهم ابن كثير |
أبو سليمان داود بن نصير الطائي ← |
أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد.
كانت له همة عالية في ذلك رحمه الله.
فهو: إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن عامر بن إسحاق التميمي، ويقال له: العجلي، أصله من بلخ ثم سكن الشام ودخل دمشق.
وروى الحديث عن: أبيه، والأعمش، ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة، وأبي إسحاق السبيعي، وخلق.
وحدث عنه خلق منهم: بقية، والثوري، وأبو إسحاق الفزاري، ومحمد بن حميد. وحكى عنه الأوزاعي.
وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الجزري، عن إبراهيم بن أدهم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: دخلت على رسول الله ﷺوهو يصلي جالسا فقلت: يا رسول الله إنك تصلي جالسا فما أصابك؟
قال: «الجوع يا أبا هريرة».
قال: فبكيت.
فقال: «لا تبك فإن شدة يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا».
ومن طريق بقية، عن إبراهيم بن أدهم، حدثني أبو إسحاق الهمداني، عن عمارة بن غزية، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الفتنة تجيء فتنسف العباد نسفا، وينجوا العالم منها بعلمه».
قال النسائي: إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون أحد الزهاد.
وذكر أبو نعيم وغيره: أنه كان ابن ملك من ملوك خراسان، وكان قد حبب إليه الصيد، قال: فخرجت مرة فأثرت ثعلبا فهتف بي هاتف من قربوس سرجي: ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت.
قال: فوقفت وقلت: انتهيت انتهيت، وجاءني نذير من رب العالمين.
فرجعت إلى أهلي فخليت عن فرسي وجئت إلى بعض رعاة أبي فأخذت منه جبة وكساء ثم ألقيت ثيابي إليه، ثم أقبلت إلى العراق فعملت بها أياما فلم يصفُ لي بها الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فأرشدني إلى بلاد الشام فأتيت طرطوس فعملت بها أياما أنطر البساتين وأحصد الحصاد، وكان يقول: ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام.
أفر بديني من شاهق إلى شاهق ومن جبل إلى جبل، فمن يراني يقول: هو موسوس.
ثم دخل البادية ودخل مكة وصحب الثوري والفضل بن عياض ودخل الشام ومات بها، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه مثل الحصاد وعمل الفاعل وحفظ البستان وغير ذلك، وما روي عنه أنه وجد رجلا في البادية فعلمه اسم الله الأعظم فكان يدعو به حتى رأى الخضر فقال له: إنما علمك أخي داود اسم الله الأعظم.
وذكره القشيري وابن عساكر عنه بإسناد لا يصح.
وفيه أنه قال له: إن إلياس علمك اسم الله الأعظم.
وقال إبراهيم: أطب مطعمك ولا عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار.
وذكر أبو نعيم، عنه: أنه كان أكثر دعائه: اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك.
وقيل له: إن اللحم قد غلا.
فقال: ارخصوه، أي: لا تشتروه، فإنه يرخص.
وقال بعضهم: هتف به الهاتف من فوقه: يا إبراهيم ! ما هذا العبث: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115] ، اتق الله وعليك بالزاد ليوم القيامة.
فنزل عن دابته ورفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة.
وروى ابن عساكر بإسناد فيه نظر في ابتداء أمره قال: بينما أنا يوما في منظرة لي ببلخ وإذا شيخ حسن الهيئة حسن اللحية قد استظل بظلها فأخذ بمجامع قلبي، فأمرت غلاما فدعاه فدخل فعرضت عليه الطعام فأبى فقلت: من أين أقبلت؟
قال: من وراء النهر.
قلت: أين تريد؟
قال: الحج.
قلت: في هذا الوقت؟ - وقد كان أول يوم من ذي الحجة أو ثانيه -.
فقال: يفعل الله ما يشاء.
فقلت: الصحبة.
قال: إن أحببت ذلك فموعدك الليل.
فلما كان الليل جاءني فقال: قم بسم الله.
فأخذت ثياب سفري وسرنا نمشي كأنما الأرض تجذب من تحتنا، ونحن نمر على البلدان ونقول: هذه فلانة هذه فلانة، فإذا كان الصباح فارقني ويقول: موعدك الليل.
فإذا كان الليل جاءني ففعلنا مثل ذلك.
فانتهينا إلى مدينة النبي ﷺثم سرنا إلى مكة فجئناها ليلا فقضينا الحج مع الناس ثم رجعنا إلى الشام فزرنا بيت المقدس، وقال: إني عازم على المقام بالشام.
ثم رجعت أنا إلى بلدي بلخ كسائر الضعفاء حتى رجعنا إليها ولم أسأله عن اسمه، فكان ذلك أول أمري. وروي من وجه آخر فيه نظر.
وقال أبو حاتم الرازي: عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، قال: كان إبراهيم بن أدهم يشبه الخليل، ولو كان في الصحابة كان رجلا فاضلا له سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يديه.
وقال عبد الله بن المبارك: كان إبراهيم رجلا فاضلا له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز وجل وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من عمله، ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يده.
وقال بشر بن الحارث الحافي: أربعة رفعهم الله بطيب المطعم: إبراهيم بن أدهم، وسليمان بن الخواص، ووهيب بن الورد، ويوسف بن أسباط.
وروى ابن عساكر، من طريق معاوية بن حفص، قال: إنما سمع إبراهيم بن أدهم حديثا واحدا فأخذ به فساد أهل زمانه.
قال: حدثنا منصور، عن ربعي بن خراش، قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺفقال: يا رسول الله دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس.
قال: «إذا أردت أن يحبك الله فأبغض الدنيا، وإذا أردت أن يحبك الناس فما عندك من فضولها فانبذه إليهم».
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو الربيع، عن إدريس، قال: جلس إبراهيم إلى بعض العلماء فجعلوا يتذاكرون الحديث وإبراهيم ساكت، ثم قال: حدثنا منصور، ثم سكت فلم ينطق بحرف حتى قام من ذلك المجلس.
فعاتبه بعض أصحابه في ذلك ! فقال: إني لأخشى مضرة ذلك المجلس في قلبي إلى اليوم.
وقال رشدين بن سعد: مر إبراهيم بن أدهم بالأوزاعي وحوله حلقة فقال: لو أن هذه الحلقة على أبي هريرة لعجز عنهم. فقام الأوزاعي وتركهم.
وقال إبراهيم بن بشار: قيل لابن أدهم: لم تركت الحديث؟
فقال: إني مشغول عنه بثلاث: بالشكر على النعم، والاستغفار من الذنوب، وبالاستعداد للموت، ثم صاح وغشي عليه فسمعوا هاتفا يقول: لا تدخلوا بيني وبين أوليائي.
وقال أبو حنيفة يوما لإبراهيم بن أدهم: قد رزقت من العباد شيئا صالحا فليكن العلم من بالك فإنه رأس العبادة وقوام الدين.
فقال له إبراهيم: وأنت فليكن العبادة والعمل بالعلم من بالك وإلا هلكت.
وقال إبراهيم: ماذا أنعم الله على الفقراء لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة ولا عن حج ولا عن جهاد ولا عن صلة رحم، إنما يسأل ويحاسب هؤلاء المساكين الأغنياء.
وقال شقيق بن إبراهيم: لقيت ابن أدهم بالشام وقد كنت رأيته بالعراق وبين يديه ثلاثون شاكريا.
فقلت له: تركت ملك خراسان، وخرجت من نعمتك؟
فقال: اسكت ما تهنيت بالعيش إلا ههنا، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، فمن يراني يقول: هو موسوس أو حمال أو ملاح.
ثم قال: بلغني أنه يؤتى بالفقير يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله فيقول له: يا عبدي ! مالك لم تحج؟
فيقول: يا رب لم تعطني شيئا أحج به.
فيقول الله: صدق عبدي اذهبوا به إلى الجنة.
وقال: أقمت بالشام أربعا وعشرين سنة ولم أقم بها لجهاد ولا رباط إنما نزلتها لآشبع من خبز حلال.
وقال: الحزن حزنان: حزن لك وحزن عليك، فحزنك على الآخرة لك، وحزنك على الدنيا وزينتها عليك.
وقال: الزهد ثلاثة: واجب، ومستحب، وزهد سلامة، فأما الواجب: فالزهد في الحرام، والزهد عن الشهوات الحلال: مستحب، والزهد عن الشبهات: سلامة.
وكان هو وأصحابه يمنعون أنفسهم الحمام والماء البارد والحذاء، ولا يجعلون في ملحهم أبزارا، وكان إذا جلس على سفرة فيها طعام طبي رمى بطيبها إلى أصحابه وأكل هو الخبز والزيتون.
وقال: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع.
وقال له رجل: هذه جبة أحب أن تقبلها مني.
فقال: إن كنت غنيا قبلتها، وإن كنت فقيرا لم أقبلها.
قال: أنا غني.
قال: كم عندك؟
قال: ألفان.
قال: تود أن تكون أربعة آلاف؟
قال: نعم !
قال: فأنت فقير، لا أقبلها منك.
وقيل له: لو تزوجت؟
فقال: لو أمكنني أن أطلق نفسي لطلقتها.
ومكث بمكة خمسة عشر يوما لا شيء له ولم يكن له زاد سوى الرمل بالماء، وصلى بوضوء واحد خمس عشرة صلاة، وأكل يوما على حافة الشريعة كسيرات مبلولة بالماء وضعها بين يديه أبو يوسف الغسولي، فأكل منها ثم قام فشرب من الشريعة ثم جاء واستلقى على قفاه وقال: يا أبا يوسف ! لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش.
فقال أبو يوسف: طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم.
فتبسم إبراهيم وقال: من أين لك هذا الكلام؟
وبينما هو بالمصيصة في جماعة من أصحابه إذ جاءه راكب فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم؟
فأرشد إليه، فقال: يا سيدي ! أنا غلامك وإن أباك قد مات وترك مالا هو عند القاضي، وقد جئتك بعشرة آلاف درهم لتنفقها عليك إلى بلخ، وفرس وبغلة.
فسكت إبراهيم طويلا ثم رفع رأسه فقال: إن كنت صادقا فالدراهم والفرس والبغلة لك ولا تخبر به أحدا.
ويقال: إنه ذهب بعد ذلك إلى بلخ وأخذ المال من الحاكم وجعله كله في سبيل الله.
وكان معه بعض أصحابه فمكثوا شهرين لم يحصل لهم شيء يأكلونه، فقال له إبراهيم: أدخل إلى هذه الغيضة - وكان ذلك في يوم شاتٍ -.
قال: فدخلت فوجدت شجرة عليها خوخ كثير فملأت منه جرأبي ثم خرجت، فقال: ما معك؟
قلت: خوخ.
فقال: يا ضعيف اليقين ! لو صبرت لوجدت رطبا جنيا، كما رزقت مريم بنت عمران.
وشكا إليه بعض أصحابه الجوع فصلى ركعتين فإذا حوله دنانير كثيرة فقال لصاحبه: خذ منها دينارا.
فأخذه واشترى لهم به طعاما.
وذكروا أنه كان يعمل بالفاعل ثم يذهب فيشتري البيض والزبدة وتارة الشواء والجوذبان والخبيص فيطعمه أصحابه وهو صائم، فإذا أفطر يأكل من رديء الطعام ويحرم نفسه المطعم الطيب ليبر به الناس تأليفا لهم وتحببا وتوددا إليهم.
وأضاف الأوزاعي إبراهيم بن أدهم فقصر إبراهيم في الأكل فقال: مالك قصرت؟
فقال: لأنك قصرت في الطعام.
ثم عمل إبراهيم طعاما كثيرا ودعا الأوزاعي فقال الأوزاعي: أما تخاف أن يكون سرفا؟
فقال: لا ! إنما السرف ما كان في معصية الله، فأما ما أنفقه الرجل على إخوانه فهو من الدين.
وذكروا أنه حصد مرة بعشرين دينارا، فجلس مرة عند حجام هو صاحب له ليحلق رؤوسهم ويحجمهم، فكأنه تبرم بهم واشتغل عنهم بغيرهم، فتأذى صاحبه من ذلك ثم أقبل عليهم الحجام فقال: ماذا تريدون؟
قال إبراهيم: أريد أن تحلق رأسي وتحجمني.
ففعل ذلك، فأعطاه إبراهيم العشرين دينارا وقال: أردت أن لا تحقر بعدها فقيرا أبدا.
وقال مضاء بن عيسى: ما فاق إبراهيم أصحابه بصوم ولا صلاة ولكن بالصدقة والسخاء.
وكان إبراهيم يقول: فروا من الناس كفراركم من الأسد الضاري، ولا تخلفوا عن الجمعة والجماعة.
وكان إذا سافر مع أحد من أصحابه يحدثه إبراهيم، وكان إذا حضر في مجلس فكأنما على رؤوسهم الطير هيبةً له وإجلالا.
وربما تسامر هو وسفيان الثوري في الليلة الشاتية إلى الصباح، وكان الثوري يتحرز معه في الكلام.
ورأى رجلا قيل له: هذا قاتل خالك.
فذهب إليه فسلم عليه وأهدى له وقال: بلغني أن الرجل لا يبلغ درجة اليقين حتى يأمنه عدوه.
وقال له رجل: طوبى لك أفنيت عمرك في العبادة وتركت الدنيا والزوجات.
فقال: ألك عيال؟
قال: نعم !
فقال: لروعة الرجل بعياله - يعني: في بعض الأحيان من الفاقة - أفضل من عبادة كذا وكذا سنة.
ورآه الأوزاعي ببيروت وعلى عنقه حزمة حطب فقال: يا أبا إسحاق ! إن إخوانك يكفونك هذا.
فقال له: اسكت يا أبا عمرو ! فقد بلغني أنه إذا وقف الرجل موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة.
وخرج ابن أدهم من بيت المقدس فمر بطريق فأخذته المسلحة في الطريق فقالوا: أنت عبد؟
قال: نعم !
قالوا: آبق؟
قال: نعم ! فسجنوه.
فبلغ أهل بيت المقدس خبره فجاؤوا برمتهم إلى نائب طبرية فقالوا: علام سجنت إبراهيم بن أدهم؟
قال: ما سجنته.
قالوا: بلى ! هو في سجنك.
فاستحضره، فقال: علام سجنت؟
فقال: سل المسلحة.
قالوا: أنت عبد؟ قلت: نعم ! وأنا عبد الله.
قالوا: آبق؟ قلت: نعم ! وأنا عبد آبق من ذنوبي.
فخلى سبيله.
وذكروا أنه مر مع رفقة فإذا الأسد على الطريق فتقدم إليه إبراهيم بن أدهم فقال له: يا قسورة ! إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به وإلا فعودك على بدئك.
قالوا: فولى السبع ذاهبا يضرب بذنبه، ثم أقبل علينا إبراهيم فقال: قولوا: اللهم راعنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا الله، يا الله، يا الله.
قال خلف بن تميم: فما زلت أقولها منذ سمعتها فما عرض لي لص ولا غيره.
وقد روي لهذا شواهد من وجوه أخر.
وروي أنه كان يصلي ذات ليلة فجاءه أُسد ثلاثة فتقدم إليه أحدهم فشم ثيابه ثم ذهب فربض قريبا منه، وجاء الثاني ففعل مثل ذلك، وجاء الثالث ففعل مثل ذلك، واستمر إبراهيم في صلاته، فلما كان وقت السحر قال لهم: إن كنتم أمرتم بشيء فهلموا، وإلا فانصرفوا، فانصرفوا.
وصعد مرة جبلا بمكة ومعه جماعة فقال لهم: فقال لهم: لو أن وليا من أولياء الله قال لجبل: زل لزال.
فتحرك الجبل تحته فوكزه برجله وقال: اسكن فإنما ضربتك مثلا لأصحابي. وكان الجبل أبا قبيس.
وركب مرة سفينة فأخذهم الموج من كل مكان فلف إبراهيم رأسه بكسائه واضطجع وعج أصحاب السفينة بالضجيج والدعاء، وأيقظوه وقالوا: ألا ترى ما نحن فيه من الشدة؟
فقال: ليس هذه شدة، وإنما الشدة الحاجة إلى الناس.
ثم قال: اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك. فصار البحر كأنه قدح زيت.
وكان قد طالبه صاحب السفينة بأجرة حمله دينارين وألح عليه، فقال له: اذهب معي حتى أعطيك ديناريك، فأتى إلى جزيرة في البحر فتوضأ إبراهيم وصلى ركعتين ودعا وإذا ما حوله قد مليء دنانير، فقال له: خذ حقك ولا تزد ولا تذكر هذا لأحد.
وقال حذيفة المرعشي: أويت أنا وإبراهيم إلى مسجد خراب بالكوفة، وكان قد مضى علينا أياما لم نأكل فيها شيئا، فقال لي: كأنك جائع؟
قلت: نعم !
فأخذ رقعة فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم أنت المقصود إليه بكل حال، المشار إليه بكل معنى.
أنا حامد أنا ذاكر أنا شاكر * أنا جائع أنا حاسر أنا عاري
هي ستة وأنا الضمين لنصفها * فكن الضمين لنصفها يا باري
مدحي لغيرك وهج نار خضتها * فأجر عبيدك من دخول النار
ثم قال لي: اخرج بهذه الرقعة ولا تعلق قلبك بغير الله سبحانه وتعالى، وادفع هذه الرقعة لأول رجل تلقاه.
فخرجت فإذا رجل على بغلة فدفعتها إليه فلما قرأها بكى ودفع إليّ ستمائة دينار وانصرف، فسألت رجلا: من هذا الذي على البغلة؟
فقالوا: هو رجل نصراني.
فجئت إبراهيم فأخبرته فقال: الآن يجيء مسلم.
فما كان غير قريب حتى جاء فأكب على رأس إبراهيم وأسلم.
وكان إبراهيم يقول: دارنا إمامنا وحياتنا بعد وفاتنا، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، مثِّل لبصرك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك وانظر كيف تكون حينئذ، ومثِّل له هول المضجع ومساءلة منكر ونكير وانظر كيف تكون، ومثِّل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب، وانظر كيف تكون. ثم صرخ صرخة خر مغشيا عليه.
ونظر إلى رجل من أصحابه يضحك فقال له: لا تطمع فيما لا يكون، ولا تنسى ما يكون.
فقيل له: كيف هذا يا أبا إسحاق؟
فقال: لا تطمع في البقاء والموت يطلبك، فكيف يضحك من يموت ولا يدري أين يذهب به إلى جنة أم إلى نار؟ ولا تنس ما يكون الموت يأتيك صباحا أو مساء.
ثم قال: أوّه أوّه ! ثم خرّ مغشيا عليه.
وكان يقول: ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا.
ثم يقول: ثكلت عبدا أمه أحب الدنيا ونسي ما في خزائن مولاه.
وقال: إذا كنت بالليل نائما وبالنهار هائما وفي المعاصي دائما فكيف ترضي من هو بأمورك قائما.
ورآه بعض أصحابه وهو بمسجد بيروت وهو يبكي ويضرب بيديه على رأسه، فقال: ما يبكيك؟
فقال: ذكرت يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار.
وقال: إنك كلما أمعنت النظر في مرآة التوبة بان لك قبح شين المعصية.
وكتب إلى الثوري: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، ومن أطلق لسانه قتل نفسه.
وسأله بعض الولاة: من أين معيشتك؟
فأنشأ يقول:
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا * فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات:
لما توعد الدنيا به من شرورها * يكون بكاء الطفل ساعة يوضع
وإلا فما يبكيه منها وإنها * لأروح مما كان فيه وأوسع
إذا أبصر الدنيا استهل كأنما * يرى ما سيلقى من أذاها ويسمع
وكان يتمثل أيضا:
رأيت الذنوب تميت القلوب * ويورثها الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب * وخير لنفسك عصيانها
وما أفسد الدين إلا ملوك * وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس فلم يربحوا * ولم يغل بالبيع أثمانها
لقد رتع القوم في جيفة * تبين لذي اللب أنتانها
وقال: إنما يتم الورع بتسوية كل الخلق في قلبك، والاشتغال عن عيوبهم بذنبك، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل، فكر في ذنبك وتب إلى ربك ينبت الورع في قلبك، واقطع الطمع إلا من ربك.
وقال: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، ووعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونهاكم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها، دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها، ومنتكم فانقدتم خاضعين لأمانيها تتمرغون في زهراتها وزخارفها، وتتنعمون في لذاتها وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها.
وشكى إليه رجل كثرة عياله فقال: ابعث إليّ منهم من لا رزقه على الله. فسكت الرجل.
وقال: ومررت في بعض جبال فإذا حجر مكتوب عليه بالعربية:
كل حيّ وإن بقي * فمن العيش يستقي
فاعمل اليوم واجتهد * واحذر الموت يا شقي
قال: فبينا أنا واقف أقرأ وأبكي، وإذا برجل أشعر أغبر عليه مدرعة من شعر فسلم وقال: مم تبكي؟
فقلت: من هذا.
فأخذ بيدي ومضى غير بعيد فإذا بصخرة عظيمة مثل المحراب فقال: اقرأ وابك ولا تقصر.
وقام هو يصلي فإذا في أعلاه نقش بين عربي:
لا تبغين جاها وجاهك ساقط * عند المليك وكن لجاهك مصلحا
وفي الجانب الآخر نقش بين عربي:
من لم يثق بالقضاء والقدر * لاقى هموما كثيرة الضَّرر
وفي الجانب الأيسر نقش بين عربي:
ما أزين التقى وما أقبح الخنا * وكل مأخوذ بما جنا
وعند الله الجزا *
وفي أسفل المحراب فوق الأرض بذراع أو أكثر:
إنما الفوز والغنى * في تقى الله والعمل
قال: فلما فرغت من القراءة التفت فإذا ليس الرجل هناك، فما أدري أنصرف أم حجب عني.
وقال: أثقل الأعمال في الميزان أثقلها على الأبدان، ومن وفى العمل وفي له الأجر، ومن لم يعمل رحل من الدنيا إلى الآخرة بلا قليل ولا كثير.
وقال: كل سلطان لا يكون عادلا فهو واللص بمنزلة واحدة، وكل عالم لا يكون ورعا فهو والذئب بمنزلةٍ واحدةٍ، وكل من خدم سوى الله فهو والكلب بمنزلةٍ واحدةٍ.
وقال: ما ينبغي لمن ذل لله طاعته أن يذل لغير الله في مجاعته، فكيف بمن هو يتقلب في نعم الله وكفايته؟
وقال: أعربنا في كلامنا فلم نلحن، ولحنا في أعمالنا فلم نعرب.
وقال: كنا إذا رأينا الشاب يتكلم في المجلس أيسنا من خيره.
وقال: جانبوا الناس ولا تنقطعوا عن جمعة ولا جماعة.
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسن بن محمد بن زامين الاسترابادي، قال: أنبأ عبد الله بن محمد الحميدي الشيرازي، أنبأ القاضي أحمد بن خرزاد الأهوازي، حدثني علي بن محمد القصوي، حدثني أحمد بن محمد الحلبي، سمعت سريا السقطي، يقول: سمعت بشر بن الحارث الحافي، يقول: قال إبراهيم بن أدهم: وقفت على راهب فأشرف عليَّ فقلت له: عظني. فأنشأ يقول:
خذ عن الناس جانبا * كن بعدوك راهبا
إن دهرا أظلني * قد أراني العجائبا
قلب الناس كيف شئـ * ـت تجدهم عقاربا
قال بشر: فقلت لإبراهيم: هذه موعظة الراهب لك، فعظني أنت. فأنشأ يقول:
توحش من الأخوان لا تبغ مونسا * ولا تتخذ خلا ولا تبغ صاحبا
وكن سامري الفعل من نسل آدم * وكن أوحديا ما قدرت مجانبا
فقد فسد الإخوان والحب والإخا * فلست ترى إلا مذوقا وكاذبا فقلت ولولا أن يقال مدهده * وتنكر حالاتي لقد صرت راهبا
قال سري: فقلت لبشر: هذه موعظة إبراهيم لك فعظني أنت.
فقال: عليك بالخمول ولزوم بيتك.
فقلت: بلغني عن الحسن، أنه قال: لولا الليل وملاقاة الإخوان ما باليت متى مت.
فأنشأ بشر يقول:
يا من يسر برؤية الإخوان * مهلا أمنت مكايد الشيطان
خلت القلوب من المعاد وذكره * وتشاغلوا بالحرص والخسران
صارت مجالس من ترى وحديثهم * في هتك مستور وموت جنان
قال الحلبي: فقلت لسري: هذه موعظة بشر فعظني أنت.
فقال: ما عليك بالإخمال.
فقلت: أحب ذاك. فأنشأ يقول:
يا من يروم بزعمه إخمالا * إن كان حقا فاستعدَّ خصالا
ترك المجالس والتذاكر يا أخي * واجعل خروجك للصلاة خيال
بل كن بها حيا كأنك ميت * لا يرتجي منه القريب وصالا
قال علي بن محمد القصري: قلت للحلبي: هذه موعظة سري لك فعظني أنت.
قال: يا أخي ! أحب الأعمال إلى الله ما صعد إليه من قلب زاهد في الدنيا، فازهد في الدنيا يحبك الله.
ثم أنشأ يقول:
أنت في دار شتات * فتأهب لشتاتك
واجعل الدنيا كيوم * صمته عن شهواتك
واجعل الفطر إذا * ما صمته يوم وفاتك
قال ابن خرزاد: فقلت لعلي: هذه موعظة الحلبي لك فعظني أنت.
فقال لي: احفظ وقتك واسخ بنفسك لله عز وجل، وانزع قيمة الأشياء من قلبك يصفو لك بذلك سرك ويذكو به ذكرك.
ثم أنشدني:
حياتك أنفسا تعد فكلما * مضى نفس منها انتقضت به جزءا
فتصبح في نقص وتمسي بمثله * وما لك معقول تحس به رزءا
يميتك ما يحييك في كل ساعة * ويحدوك حاد ما يزيد بك الهزءا
قال أبو محمد لأحمد: هذه موعظة علي لك فعظني.
فقال: يا أخي ! عليك بلزوم الطاعة وإياك أن تفارق باب القناعة، وأصلح مثواك، ولا تؤثر هواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، واشتغل بما يعنيك بترك ما لا يعنيك.
ثم أنشدني:
ندمت على ما كان مني ندامة * ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم
فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم * ستلقون ربا عادلا ليس يظلم
فليس لمغرور بدنياه زاجر * سيندم إن زلت به النعل فاعلموا
قال ابن زامين: فقلت لأبي محمد: هذه موعظة أحمد لك فعظني أنت.
فقال: اعلم رحمك الله أن الله عز وجل ينزل العبيد حيث نزلت قلوبهم بهمومها، فانظر أين ينزل قلبك، واعلم أن الله سبحانه يقرب من القلوب على حسب ما تقرب منه، وتقرب منه على حسب ما قرب إليها، فانظر من القريب من قلبك.
وأنشدني:
قلوب رجال في الحجاب نزول * وأرواحهم فيما هناك حلول
تروح نعيم الأنس في عزِّ قربه * بأفراد توحيد الجليل تحول
لهم بفناء القرب من محض بره * عوائد بذل خطبهن جليل
قال الخطيب: فقلت لابن زامين: هذه موعظة الحميدي لك فعظني أنت.
فقال: اتق الله وثق به ولا تتهمه فإن اختياره لك خير من اختيارك لنفسك.
وأنشدني:
اتخذ اللهَ صاحبا * ودع الناس جانبا
جرب الناس كيف شئـ * ـت تجدهم عقاربا
قال أبو الفرج غيث الصوري: فقلت للخطيب: هذه موعظة ابن زامين لك فعظني أنت.
فقال: احذر نفسك التي هي أعدى أعدائك أن تتابعها على هواها، فذاك أعضل دائك، واستشرف الخوف من الله تعالى بخلافها، وكرر على قلبك ذكر نعوتها وأوصافها، فإنها الأمارة بالسوء والفحشاء، والموردة من أطاعها موارد العطب والبلاء، واعمد في جميع أمورك إلى تحري الصدق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله.
وقد ضمن الله لمن خالف هواه أن يجعل له جنة الخلد قراره ومأواه، ثم أنشد لنفسه:
إن كنت تبغي الرشاد محضا * في أمر دنياك والمعاد
فخالف النفس في هواها * إن الهوى جامع الفساد
قال ابن عساكر: المحفوظ أن إبراهيم بن أدهم توفي سنة ثنتين وستين ومائة.
وقال غيره: إحدى وستين، وقيل: سنة ثلاث. والصحيح: ما قاله ابن عساكر، والله أعلم.
وذكروا أنه توفي في جزيرة من جزائر بحر الروم وهو مرابط، وأنه ذهب إلى الخلاء ليلة مات نحوا من عشرين مرة، وفي كل مرة يجدد الوضوء بعد هذا، وكان به البطن، فلما كانت غشية الموت قال: أوتروا لي قوسي، فأوتروه فقبض عليه فمات وهو قابض عليه يريد الرمي به إلى العدو، رحمه الله وأكرم مثواه.
وقد قال أبو سعيد بن الأعرابي: حدثنا محمد بن علي بن يزيد الصائغ، قال: سمعت الشافعي، يقول: كان سفيان معجبا به:
أجاعتهم الدنيا فخافوا ولم يزل * كذلك ذو التقوى عن العيش ملجما
أخو طيء داود منهم ومسعر * ومنهم وهيب والعريب ابن أدهما
وفي ابن سعيد قدوة البر والنهى * وفي الوارث الفاروق صدقا مقدما
وحسبك منهم بالفضل مع ابنه * ويوسف إن لم يأل أن يتسلما
أولئك أصحابي وأهل مودتي * فصلى عليهم ذو الجلال وسلما
فما ضر ذا التقوى نصال أسنة * وما زال ذو التقوى أعز وأكرما
ومازالت التقوى تريك على الفتى * إذا محض من العز ميسما
وروى البخاري في كتاب الأدب عن إبراهيم بن أدهم، وأخرج الترمذي في جامعه حديثا معلقا في المسح على الخفين، والله سبحانه أعلم.
وفيها توفي: