→ ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين | البداية والنهاية – الجزء العاشر الإمام أحمد بن حنبل ابن كثير |
ورعه وتقشفه وزهده رحمه الله ← |
فنقول وبالله المستعان هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن حمل بن النبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل - عليهما السلام - أبو عبد الله الشيباني ثم المروزي ثم البغدادي، هكذا ساق نسبه الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي جمعه في مناقب أحمد عن شيخه الحافظ أبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك.
وروى عن صالح بن الإمام أحمد قال: رأى أبي هذا النسب في كتاب لي فقال: وما تصنع به؟ ولم ينكر النسب. قالوا: وقدم به أبوه من مرو وهو حمل فوضعته أمه في ببغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة.
وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين، فكفلته أمه.
قال صالح: عن أبيه، فثقبت أذني وجعلت فيها لؤلؤتين، فلما كبرت دفعتهما إلي بثلاثين درهما.
وتوفي أبو عبد الله أحمد بن حنبل يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، وله من العمر سبع وسبعون سنة، رحمه الله.
وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ثم ترك وأقبل على سماع الحديث، فكان أول طلبه للحديث وأول سماعه من مشايخه في سنة سبع وثمانين ومائة، وقد بلغ من العمر ست عشر سنة، وأول حجة حجها في سنة سبع وثمانين ومائة، ثم سنة إحدى وتسعين.
وفيها: حج الوليد بن مسلم، ثم سنة ست وتسعين، وجاور في سنة سبع وتسعين، ثم حج في سنة ثمان وتسعين، وجاور إلى سنة تسع وتسعين، سافر إلى عند عبد الرازق إلى اليمن، فكتب عنه هو ويحيى بن معين وإسحق بن راهويه.
قال الإمام أحمد: حججت خمس حجج منها ثلاث راجلا، أنفقت في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهما.
قال: وقد ضللت في بعضها الطريق وأنا ماش، فجعلت أقول: يا عباد الله دلوني على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق، قال: وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة، ولو كان عندي تسعون درهما كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري وخرج بعض أصحابنا ولم يمكني الخروج لأنه لم يمكن عندي شيء.
وقال ابن أبي حاتم: عن أبيه، عن حرملة سمعت الشافعي قال: وعدني أحمد بن حنبل أن يقدم على مصر فلم يقدم.
قال ابن أبي حاتم: يشبه أن تكون ذات اليد منعته أن يفي بالعدة، وقد طاف أحمد بن حنبل في البلاد والآفاق وسمع من مشايخ العصر، وكانوا يجلونه ويحترمونه في حال سماعه منهم، وقد سرد شيخنا في تهذيبه أسماء شيوخه مرتبين على حروف المعجم، وكذلك الرواة عنه.
قال البيهقي: بعد أن ذكر جماعة من شيوخ الإمام أحمد: وقد ذكر أحمد بن حنبل في المسند وغيره الرواية عن الشافعي، وأخذ عنه جملة من كلامه في أنساب قريش، وأخذ عنه من الفقه ما هو مشهور، وحين توفي أحمد وجدوا في تركته رسالتي الشافعي القديمة والجديدة.
قلت: قد أفرد ما رواه أحمد عن الشافعي، وهي أحاديث لا تبلغ عشرين حديثا ومن أحسن ما رويناه عن الإمام أحمد، عن الشافعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: «نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة يرجعه إلى جسده يوم البعث»
وقد قال الشافعي لأحمد لما اجتمع به في الرحلة الثانية إلى بغداد سنة تسعين ومائة - وعمر أحمد إذ ذاك نيف وثلاثون سنة - قال له: يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه حجازيا كان أو شاميا أو عراقيا أو يمنيا - يعني لا يقول بقول فقهاء الحجاز الذين لا يقبلون إلا رواية الحجازيين وينزلون أحاديث من سواهم منزلة أحاديث أهل الكتاب -.
وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيم لأحمد، وإجلال له، وأنه عنده بهذه المثابة إذا صحح أو ضعف يرجع إليه، وقد كان الإمام أحمد بهذه المثابة عند الأئمة والعلماء، كما سيأتي ثناء الأئمة عليه واعترافهم له بعلو المكانة في العلم والحديث، وقد بعد صيته في زمانه واشتهر اسمه في شبيبته في الآفاق.
ثم حكى البيهقي كلام أحمد في الإيمان وأنه قول وعمل ويزيد وينقص، وكلامه في القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنكاره على من يقول: إن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن.
قال: وفيها حكى أبو عمارة وأبو جعفر، أخبرنا أحمد شيخنا السراج، عن أحمد بن حنبل، أنه قال: اللفظ محدث، واستدل بقوله: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18] .
قال: فاللفظ كلام الآدميين.
وروى غيرهما عن أحمد أنه قال: القرآن كيف ما تصرف فيه غير مخلوق، وأما أفعالنا فهي مخلوقة، قلت: وقد قرر البخاري في هذا المعنى في أفعال العباد، وذكره أيضا في الصحيح، واستدل بقوله عليه السلام: «زينوا القرآن بأصواتكم».
ولهذا قال غير واحد من الأئمة: الكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري، وقد قرر البيهقي ذلك أيضا.
وروى البيهقي، من طريق إسماعيل بن محمد بن إسماعيل السلمي، عن أحمد، أنه قال: من قال القرآن محدث فهو كافر.
ومن طريق أبي الحسن الميموني، عن أحمد أنه أجاب الجهيمة حين احتجوا عليه بقوله تعالى: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأنبياء: 2] قال: يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث، لا الذكر نفسه هو المحدث.
وعن حنبل، عن أحمد أنه قال: يحتمل أن يكون ذكر آخر غير القرآن، وهو ذكر رسول الله ﷺأو وعظه إياهم.
ثم ذكر البيهقي كلام الإمام أحمد، وفي رؤية الله في الدار الآخرة، واحتج بحديث صهيب في الرؤية، وهي زيادة، وكلامه في نفي التشبيه وترك الخوض في الكلام، والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي ﷺوعن أصحابه.
وروى البيهقي، عن الحاكم، عن أبي عمرو بن السماك، عن حنبل، أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر: 22] أنه: جاء ثوابه. ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله هو ابن مسعود - قال: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيء، وقد رأى الصحابة جميعا أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه، إسناد صحيح.
قلت: وهذا الأثر فيه حكاية إجماع عن الصحابة في تقديم الصديق. والأمر كما قاله ابن مسعود، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة.
وقد قال أحمد حين اجتاز بحمص وقد حمل إلى المأمون في زمن المحنة، ودخل عليه عمرو بن عثمان الحمصي فقال له: ما تقول في الخلافة؟
فقال: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن قدم عليا على عثمان فقد أزرى بأصحاب الشورى، لأنهم قدموا عثمان رضي الله عنه.