→ ذكر أول المحنة والفتنة | البداية والنهاية – الجزء العاشر عبد الله المأمون ابن كثير |
خلافة المعتصم بالله أبي إسحاق بن هارون ← |
هو: عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، العباسي القرشي الهاشمي، أبو جعفر، أمير المؤمنين، وأمه أم ولد يقال لها: مراجل الباذغيسية، وكان مولده في ربيع الأول سنة سبعين ومائة ليلة توفي عمه الهادي، وولي أبوه هارون الرشيد، وكان ذلك ليلة الجمعة كما تقدم.
قال ابن عساكر: روى الحديث عن: أبيه، وهاشم بن بشر، وأبي معاوية الضرير، ويوسف بن قحطبة، وعباد بن العوام، وإسماعيل بن علية، وحجاج بن محمد الأعور.
وروى عنه: أبو حذيفة إسحاق بن بشر، - وهو أسن منه - ويحيى بن أكثم القاضي، وابنه الفضل بن المأمون، ومعمر بن شبيب، وأبو يوسف القاضي، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي، وأحمد بن الحارث الشعبي - أو اليزيدي -، وعمرو بن مسعدة، وعبد الله بن طاهر بن الحسين، ومحمد بن إبراهيم السلمي، ودعبل بن علي الخزاعي.
قال: وقدم دمشق مرات وأقام بها مدة.
ثم روى ابن عساكر، من طريق أبي القاسم البغوي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي، قال: سمعت المأمون في الشماسية وقد أجرى الحلبة فجعل ينظر إلى كثرة الناس، فقال ليحيى بن أكثم: أما ترى كثرة الناس؟
قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس، أن النبي ﷺقال: «الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله».
ومن حديث أبي بكر المنايحي، عن الحسين بن أحمد المالكي، عن يحيى بن أكثم القاضي، عن المأمون، عن هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رسول الله ﷺقال: «الحياء من الإيمان».
ومن حديث جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، أنه صلى العصر يوم عرفة خلف المأمون بالرصافة، فلما سلم كبر الناس فجعل يقول: لا يا غوغاء لا يا غوغاء، غدا التكبير سنة أبي القاسم ﷺ.
فلما كان الغد صعد المنبر فكبر ثم قال: أنبأ هشيم بن بشير، ثنا ابن شبرمة، عن الشعبي، عن البراء بن عازب، عن أبي بردة بن دينار، قال: قال رسول الله ﷺ: «من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه لأهله، ومن ذبح بعد أن يصلي الغداة فقد أصاب السنة».
الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، اللهم أصلحني واستصلحني وأصلح على يدي.
تولى المأمون الخلافة في المحرم لخمس بقين منه بعد مقتل أخيه سنة ثمان وتسعين ومائة، واستمر في الخلافة عشرين سنة وخمسة أشهر.
وقد كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسنة الصحيحة، وقد بايع في سنة إحدى ومائتين بولاية العهد من بعده لعلي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وخلع السواد ولبس الخضرة كما تقدم، فأعظم ذلك العباسيون من البغاددة وغيرهم، وخلعوا المأمون وولوا عليهم إبراهيم بن المهدي.
ثم ظفر المأمون بهم واستقام له الحال في الخلافة، وكان على مذهب الاعتزال لأنه اجتمع بجماعة منهم بشر بن غياث المريسي فخدعوه وأخذ عنهم هذا المذهب الباطل.
وكان يحب العلم ولم يكن له بصيرة نافذة فيه، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل، وراج عنده الباطل، ودعا إليه وحمل الناس عليه قهرا، وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته.
وقال ابن أبي الدنيا: كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه قد وخطه الشيب يعلوه صفرة أعين، طويل اللحية رقيقها ضيق الجبين، على خده خال.
أمه أم ولد يقال لها: مراجل.
وروى الخطيب، عن القاسم بن محمد بن عباد، قال: لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء غير عثمان بن عفان والمأمون، وهذا غريب جدا لا يوافق عليه، فقد كان يحفظ القرآن عدة من الخلفاء.
قالوا: وقد كان المأمون يتلو في شهر رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة، وجلس يوما لإملاء الحديث فاجتمع حوله القاضي يحيى بن أكثم وجماعة فأملى عليهم من حفظه ثلاثين حديثا.
وكانت له بصيرة بعلوم متعددة، فقها وطبا وشعرا وفرائض وكلاما ونحوا وغريبه، وغريب حديث، وعلم النجوم، وإليه ينسب الزيج المأموني، وقد اختبر مقدار الدرجة في وطئه سنجار فاختلف عمله وعمل الأوائل من الفقهاء.
وروى ابن عساكر أن المأمون جلس يوما للناس وفي مجلسه الأمراء والعلماء، فجاءت امرأة تتظلم إليه فذكرت أن أخاها توفي وترك ستمائة دينار، فلم يحصل لها سوى دينار واحد.
فقال لها المأمون على البديهة: قد وصل إليك حقك، كان أخاك قد ترك بنتين وأما وزوجة واثني عشر أخا وأختا واحدةً وهي أنت.
قالت: نعم ! يا أمير المؤمنين.
فقال: للبنتين الثلثان أربعمائة دينار، وللأم السدس مائة دينار، وللزوجة الثمن خمسة وسبعون دينارا، بقي خمسة وعشرون دينارا لكل أخ ديناران ديناران، ولك دينار واحد.
فعجب العلماء من فطنته وحدة ذهنه وسرعة جوابه.
وقد رويت هذه الحكاية عن علي بن أبي طالب.
ودخل بعض الشعراء على المأمون وقد قال فيه بيتا من الشعر يراه عظيما، فلما أنشده إياه لم يقع منه موقعا طائلا، فخرج من عنده محروما، فلقيه شاعر آخر فقال له: ألا أعجبك ! أنشدت المأمون هذا البيت فلم يرفع به رأسا.
فقال: وما هو؟
قال: قلت فيه:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا * بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
فقال له الشاعر الآخر: ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها.
فهلا قلت كما قال جرير في عبد العزيز بن مروان:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه * ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
وقال المأمون يوما لبعض جلسائه: بيتان اثنان لاثنين ما يلحق بهما أحد، قول أبي نواس:
إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت * له عن عدو في لباس صديق
وقول شريح:
تهون على الدنيا الملامة إنه * حريص على استصلاحها من يلومها
قال المأمون: وقد ألجأني الزحام يوما وأنا في الموكب حتى خالطت السوقة فرأيت رجلا في دكان عليه أثواب خلْقة، فنظر إليّ نظر من يرحمني أو من يتعجب من أمري فقال:
أرى كل مغرور تمنِّيه نفسه * إذا ما مضى عام سلامة قابل
وقال يحيى بن أكثم سمعت المأمون يوم عيد خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول ﷺثم قال: عباد الله ! عظم أمر الدارين وارتفع جزاء العالمين، وطالت مدة الفريقين، فوالله إنه للجد لا اللعب، وإنه للحق لا الكذب، وما هو إلا الموت والبعث، والحساب والفصل، والميزان والصراط، ثم العقاب أو الثواب، فمن نجا يومئذ فقد فاز، ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كله في الجنة، والشر كله في النار.
وروى ابن عساكر، من طريق النضر بن شميل، قال: دخلت على المأمون فقال: كيف أصبحت يا نضر؟
فقلت: بخير يا أمير المؤمنين.
فقال: ما الإرجاء؟
فقلت: دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقصون به من دينهم.
قال: صدقت.
ثم قال: يا نضر ! أتدري ما قلت في صبيحة هذا اليوم؟
قلت: إني لمن علم الغيب لبعيد.
فقال: قلت أبياتا وهي:
أصبح ديني الذي أدين به * ولست منه الغداة معتذرا
حبَ عليّ بعد النبي ولا * أشتم صدِّيقا ولا عمرا
ثم ابن عفان في الجنان مع الـ* أبرار ذاك القتيل مصطبرا
ألا ولا أشتم الزبير ولا * طلحة إن قال قائل غدرا
وعائش الأم لست أشتمها * من يفتريها فنحن منه برا
وهذا المذهب ثاني مراتب الشيعة وفيه تفضيل علي على الصحابة.
وقد قال جماعة من السلف والدارقطني: من فضل عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار - يعني: في اجتهادهم ثلاثة أيام ثم اتفقوا على عثمان وتقديمه على علي بعد مقتل عمر -.
وبعد ذلك ست عشرة مرتبة في التشيع، على ما ذكره صاحب كتاب البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم، وهو كتاب ينتهي به إلى أكفر الكفر.
وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: لا أوتى بأحد فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري.
وتواتر عنه أنه قال: خير الناس بعد النبي ﷺأبو بكر ثم عمر.
فقد خالف المأمون الصحابة كلهم حتى علي بن أبي طالب.
وقد أضاف المأمون إلى بدعته هذه التي أزرى فيها على المهاجرين والأنصار، البدعة الأخرى والطامة الكبرى وهي: القول بخلق القرآن مع ما فيه من الانهماك على تعاطي المسكر وغير ذلك من الأفعال التي تعدد فيها المنكر.
ولكن كان فيه شهامة عظيمة وقوة جسيمة في القتال وحصار الأعداء ومصابرة الروم وحصرهم، وقتل رجالهم وسبي نسائهم، وكان يقول: كان لعمر بن عبد العزيز وعبد الملك حجَّاب وأنا بنفسي.
وكان يتحرى العدل ويتولى بنفسه الحكم بين الناس والفصل.
جاءته امرأة ضعيفة قد تظلمت على ابنه العباس وهو قائم على رأسه، فأمر الحاجب فأخذه بيده فأجلسه معها بين يديه، فادَّعت عليه بأنه أخذ ضيعة لها واستحوذ عليها، فتناظرا ساعة فجعل صوتها يعلو على صوته، فزجرها بعض الحاضرين، فقال له المأمون: اسكت فإن الحق أنطقها والباطل أسكته.
ثم حكم لها بحقها وأغرم ابنه لها عشرة آلاف درهم.
وكتب إلى بعض الأمراء: ليس المروءة أن يكون بيتك من ذهب وفضة وغريمك عار، وجارك طاوٍ و الفقير جائع.
ووقف رجل بين يديه فقال له المأمون: والله لأقتلنك.
فقال: يا أمير المؤمنين ! تأنَّ علي فإن الرفق نصف العفو.
فقال: ويلك ويحك ! قد حلفت لأقتلنك.
فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن تلق الله حانثا خير من أن تلقاه قاتلا.
فعفا عنه.
وكان يقول: ليت أهل الجرائم يعرفون أن مذهبي العفو حتى يذهب الخوف عنهم ويدخل السرور إلى قلوبهم.
وركب يوما في حراقة فسمع ملاحا يقول لأصحابه: ترون هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه الأمين - يقول ذلك وهو لا يشعر بمكان المأمون - فجعل المأمون يتبسم ويقول: كيف ترون الحيلة حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل القدر؟
وحضر عند المأمون هدبة بن خالد ليتغدى عنده فلما رفعت المائدة جعل هدبة يلتقط ما تناثر منها من اللباب وغيره.
فقال له المأمون: أما شبعت يا شيخ؟
فقال: بلى، حدثني حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رسول الله ﷺقال: «من أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر».
قال: فأمر له المأمون بألف دينار.
وروى ابن عساكر أن المأمون قال يوما لمحمد بن عباد بن المهلب: يا أبا عبد الله ! قد أعطيتك ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطيك دينارا.
فقال: يا أمير المؤمنين ! إن منع الموجود سوء ظن بالمعبود.
فقال: أحسنت يا أبا عبد الله ! أعطوه ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف.
ولما أراد المأمون أن يدخل ببوران بنت الحسن بن سهل جعل الناس يهدون لأبيها الأشياء النفيسة، وكان من جملة من يعتز به رجل من الأدباء.
فأهدى إليه مزودا فيه ملح طيب، ومزودا فيه أشنان جيد، وكتب إليه: إني كرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا أذكر فيها، فوجهت إليك بالمبتدأ به ليمنه وبركته، وبالمختوم به لطيبه ونظافته.
وكتب إليه:
بضاعتي تقصر عن همتي * وهمّتي تقصر عن مالي
فالملح والأشنان يا سيدي * أحسن ما يهديه أمثالي
قال: فدخل بها الحسن بن سهل على المأمون فأعجبه ذلك وأمر بالمزودين ففرغا وملئا دنانير وبعث بهما إلى ذلك الأديب.
وولد للمأمون ابنه جعفر فدخل عليه الناس يهنئونه بصنوف التهاني، ودخل بعض الشعراء فقال يهنيه بولده:
مدّ لك الله الحياة مدّا * حتى ترى ابنك هذا جدا
ثم يفدّى ما تفدّى * كأنه أنت إذا تبدَّى
أشبه منك قامةً وقدا * مؤزّرا بمجده مردّا
قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقدم عليه وهو بدمشق مال جزيل بعد ما كان قد أفلس وشكى إلى أخيه المعتصم ذلك، فوردت عليه خزائن من خراسان ثلاثون ألف ألف درهم، فخرج يستعرضها وقد زينت الجمال والأحمال، ومعه يحيى بن أكثم القاضي، فلما دخلت البلد قال: ليس من المروءة أن نحوز نحن هذا كله والناس ينظرون.
ثم فرق منه أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب لم ينزل عن فرسه.
ومن لطيف شعره:
لساني كتوم لأسراركم * ودمعي نموم لسرّي مذيع
فلولا دموعي كتمت الهوى * ولولا الهوى لم تكن لي دموع
بعث خادما ليلة من الليالي ليأتيه بجارية فأطال الخادم عندها المكث، وتمنعت الجارية من المجيء إليه حتى يأتي إليها المأمون بنفسه، فأنشأ المأمون يقول:
بعثتك مشتاقا ففزت بنظرة * وأغفلتني حتى أسأت بك الظنّا
فناجيت من أهوى وكنت مباعدا * فياليت شعري عن دنّوك ما أغنى
وردّدت طرفا في محاسن وجهها * ومتّعت باستسماع نغمتها أذنا
أرى أثرا منه بعينيك بيّنا * لقد سرقت عيناك من عينها حسنا
ولما ابتدع المأمون ما ابتدع من التشيع والاعتزال، فرح بذلك بشر المريسي - وكان بشر هذا شيخ المأمون - فأنشأ يقول:
قد قال مأموننا وسيدنا * قولا له في الكتب تصديق
إن عليا أعني أبا حسن ٍ* أفضل من قد أقلت النّوق
بعد نبي الهدى وإن لنا * أعمالنا، والقرآن مخلوق
فأجابه بعض الشعراء من أهل السنة:
يا أيها الناس لا قول ولا عمل * لمن يقول: كلام الله مخلوق
ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر * ولا النبي ولم يذكره صديق
ولم يقل ذاك إلا كل مبتدعٍ * على الرسول وعند الله زنديق
بشر أراد به إمحاق دينهم * لأن دينهم والله ممحوق
يا قوم أصبح عقل من خليفتكم * مقيدا وهو في الأغلال موثوق
وقد سأل بشر بن المأمون أن يطلب قائل هذا فيؤدبه على ذلك، فقال: ويحك !
لو كان فقيها لأدبته ولكنه شاعر فلست أعرض له.
ولما تجهز المأمون للغزو في آخر سفرة سافرها إلى طرسوس استدعى بجارية كان يحبها وقد اشتراها في آخر عمره، فضمها إليه فبكت الجارية وقالت: قتلتني يا أمير المؤمنين بسفرك، ثم أنشأت تقول:
سأدعوك دعوة المضطّر ربا * يثيب على الدّعاء ويستجيب
لعل الله أن يكفيك حربا * ويجمعنا كما تهوى القلوب
فضمها إليه، وأنشأ يقول متمثلا:
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها * وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل
صبيحة قالت في العتاب قتلتني * وقتلي بما قالت هناك تحاول
ثم أمر مسرورا الخادم بالإحسان إليها والاحتفاط عليها حتى يرجع، ثم قال: نحن كما قال الأخطل:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم * دون النساء ولو باتت بأطهار
ثم ودعها وسار فمرضت الجارية في غيبته هذه، ومات المأمون أيضا في غيبته هذه، فلما جاء نعيه إليها تنفست الصعداء وحضرتها الوفاة، وأنشأت تقول وهي في السياق:
إن الزمان سقانا من مرارته * بعد الحلاوة كاسات فأروانا
أبدى لنا تارةً منه فأضحكنا * ثم انثنى تارةً أخرى فأبكانا
إنا إلى الله فيما لا يزال بنا * من القضاء ومن تلوين دنيانا
دنيا تراها ترينا من تصرفها * ما لا يدوم مصافاةً وأحزانا
ونحن فيها كأنا لا يزالينا * للعيش أحيا وما يبكون موتانا
كانت وفاة المأمون بطرسوس في يوم الخميس وقت الظهر، وقيل: بعد العصر، لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين، وله من العمر نحو من ثمان وأربعين سنة، وكانت مدة خلافته عشرين سنة وأشهرا.
وصلى عليه أخوه المعتصم وهو ولي العهد من بعده، ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم.
وقيل: كانت وفاته يوم الثلاثاء.
وقيل: يوم الأربعاء لثمان بقين من هذه السنة.
وقيل: إنه مات خارج طرسوس بأربع مراحل فحمل إليها فدفن بها.
وقيل: إنه نقل إلى أذنة في رمضان فدفن بها، فالله أعلم.
وقد قال أبو سعيد المخزومي:
هل رأيت النجوم أغنت عن المأ * مون شيئا أو ملكه المأسوس
خلّفوه بعرصتي طرسوس * مثل ما خلفوا أباه بطوس
وقد كان أوصى إلى أخيه المعتصم وكتب وصيته بحضرته وبحضرة ابنه العباس وجماعة القضاة والأمراء والوزراء والكتاب.
وفيها: القول بخلق القرآن ولم يتب من ذلك بل مات عليه وانقطع عمله وهو على ذلك لم يرجع عنه ولم يتب منه، وأوصى أن يكبر عليه الذي يصلى عليه خمسا، وأوصى المعتصم بتقوى الله عز وجل والرفق بالرعية، وأوصاه أن يعتقد ما كان يعتقده أخوه المأمون في القرآن، وأن يدعو الناس إلى ذلك، وأوصاه بعبد الله بن طاهر، وأحمد بن إبراهيم، وأحمد ابن أبي داود.
وقال: شاوره في أمورك ولا تفارقه، وإياك ويحيى بن أكثم أن تصحبه، ثم نهاه عنه وذمه وقال: خانني ونفَّر الناس عني ففارقته غير راض عنه.
ثم أوصاه بالعلويين خيرا، أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأن يواصلهم بصلاتهم في كل سنة.
وقد ذكر ابن جرير للمأمون ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة لم يذكرها ابن عساكر مع كثرة ما يورده، وفوق كل ذي علم عليم.