→ أبو شيص | البداية والنهاية – الجزء العاشر ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة ابن كثير |
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة ← |
استهلت هذه السنة وقد ألح طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين ومن معهما في حصار بغداد والتضييق على الأمين، وهرب القاسم بن الرشيد وعمه منصور بن المهدي إلى المأمون فأكرمهما، وولى أخاه القاسم جرجان، واشتد حصار بغداد ونصب عليها المجانيق والعرَّادات.
وضاق الأمين بهم ذرعا، ولم يبق معه ما ينفق في الجند، فاضطر إلى ضرب آنية الفضة والذهب دراهم ودنانير، وهرب كثير من جنده إلى طاهر، وقتل من أهل البلد خلق كثير، وأخذت أموال كثيرة منهم.
وبعث الأمين إلى قصور كثيرة ودور شهيرة مزخرفة وأماكن ومحال كثيرة فحرقها بالنار لما رأى في ذلك من المصلحة فعل كل هذا فرارا من الموت ولتدوم الخلافة له فلم تدم، وقتل وخربت دياره كما سيأتي قريبا، وفعل طاهر مثل ما فعل الأمين حتى كادت بغداد تخرب بكمالها.
فقال بعضهم في ذلك:
من ذا أصابك يا بغداد بالعين * ألم تكوني زمانا قرة العين
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم * وكان قربهم زينا من الزين
صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا * ماذا لقيت بهم من لوعة البين
استودع الله قوما ما ذكرتهم * إلا تحدَّر ماء العين من عيني
كانوا ففرقهم دهر وصدعهم * والدهر يصدع ما بين الفريقين
وقد أكثر الشعراء في ذلك. وقد أورد ابن جرير من ذلك طرفا صالحا، وأورد في ذلك قصيدةً طويلةً جدا بها بسط ما وقع، وهي هول من الأهوال اقتصرناها بالكلية.
واستحوذ طاهر على ما في الضياع من الغلات والحواصل للأمراء وغيرهم، ودعاهم إلى الأمان والبيعة للمأمون فاستجابوا جميعهم، منهم: عبد الله بن حميد بن قحطبة، ويحيى بن علي بن ماهان، ومحمد بن أبي العباس الطوسي، وكاتبه خلق من الهاشمين والأمراء، وصارت قلوبهم معه.
واتفق في بعض الأيام أن ظفر أصحاب الأمين ببعض أصحاب طاهر فقتلوا منهم طائفة عند قصر صالح، فلما سمع الأمين بذلك بطر وأشر وأقبل على اللهو والشرب واللعب، ووكل الأمور وتدبيرها إلى محمد بن عيسى بن نهيك.
ثم قويت شوكة أصحاب طاهر وضعف جانب الأمين جدا، وانحاز الناس إلى جيش طاهر - وكان جانبه آمنا جدا لا يخاف أحد فيه من سرقة ولا نهب ولا غير ذلك - وقد أخذ طاهر أكثر محال بغداد وأرباضها، ومنع الملاحين أن يحملوا طعاما إلى من خالفه، فغلت الأسعار جدا عند من خالفه، وندم من لم يكن خرج من بغداد قبل ذلك، ومنعت التجار من القدوم إلى بغداد بشيء من البضائع أو الدقيق، وصرفت السفن إلى البصرة وغيرها.
وجرت بين الفريقين حروب كثيرة، فمن ذلك:
وقعة درب الحجارة كانت لأصحاب الأمين، قتل فيها خلق من أصحاب طاهر، كان الرجل من العيَّارين والحرافشة من البغاددة يأتي عريانا ومعه بارية مقيرة، وتحت كتفه مخلاة فيها حجارة، فإذا ضربه الفارس من بعيد بالسهم اتقاه بباريته فلا يؤذيه، وإذا اقترب منه رماه بحجر في المقلاع أصابه، فهزموهم لذلك.
ووقعة الشماسية أسر فيها هرثمة بن أعين، فشق ذلك على طاهر وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية، وعبر طاهر بنفسه ومن معه إلى الجانب الآخر فقاتلهم بنفسه أشد القتال حتى أزالهم عن مواضعهم، واسترد منهم هرثمة وجماعة ممن كانوا أسروهم من أصحابه، فشق ذلك على محمد الأمين وقال في ذلك:
منيت بأشجع الثقلين قلبا * إذا ما طال ليس كما يطول
له مع كل ذي بدد رقيب * يشاهده ويعلم ما يقول
فليس بمغفل أمرا عنادا * إذا ما الأمر ضيَّعه الغفول
وضعف أمر الأمين جدا ولم يبق عنده مال ينفقه على جنده ولا على نفسه، وتفرق أكثر أصحابه عنه، وبقي مضطهدا ذليلا.
ثم انقضت هذه السنة بكمالها والناس في بغداد في قلاقل وأهوية مختلفة، وقتال وحريق، وسرقات، وساءت بغداد فلم يبق فيها أحد يرد عن أحد كما هي عادة الفتن.
وحج بالناس فيها العباس بن موسى الهاشمي من جهة المأمون.
وفيها توفي: شعيب بن حرب، أحد الزهاد.
وعبد الله بن وهب، إمام أهل الديار المصرية، وعبد الرحمن بن مسهر، أخو علي بن مسهر.
وعثمان بن سعيد، الملقب: بورش، أحد القراء المشهورين، الرواة عن نافع بن أبي نعيم.
ووكيع بن الجراح، الرواسي، أحد أعلام المحدثين، مات عن ست وستين سنة.