→ مهلك أبي مسلم الخراساني | البداية والنهاية – الجزء العاشر ترجمة أبي مسلم الخراساني ابن كثير |
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثون ومائة ← |
هو: عبد الرحمن بن مسلم أبو مسلم صاحب دولة بني العباس، ويقال له: أمير آل بيت رسول الله ﷺ.
وقال الخطيب: يقال له: عبد الرحمن بن شيرون بن اسفنديار، أبو مسلم المروزي، صاحب الدولة العباسية.
يروي عن: أبي الزبير، وثابت البناني، وإبراهيم وعبد الله ابني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
زاد ابن عساكر في شيوخه: محمد بن علي، وعبد الرحمن بن حرملة، وعكرمة مولى ابن عباس.
قال ابن عساكر: روى عنه: إبراهيم بن ميمون الصائغ، وبشر والد مصعب بن بشر، وعبد الله بن شبرمة، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن منيب المروزي، وقديد بن منيع صهر أبي مسلم.
قال الخطيب: وكان أبو مسلم فاتكا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم، قتله أبو جعفر المنصور بالمدائن.
وقال أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان: كان اسمه: عبد الرحمن بن عثمان بن يسار، قيل: إنه ولد بأصبهان، وروي عن السدي وغيره.
وقيل: كان اسمه: إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سندوس بن حوذون، ولد بزرجمهر، وكان يكنى: أبا إسحاق، ونشأ بالكوفة، وكان أبوه أوصى به إلى عيسى بن موسى السراج، فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فلما بعثه إبراهيم بن محمد الإمام إلى خراسان قال له: غير اسمك وكنيتك.
فتسمى: عبد الرحمن بن مسلم، واكتنى: بأبي مسلم، فسار إلى خراسان وهو ابن سبع عشرة سنة راكبا على حمار بأكاف، وأعطاه إبراهيم بن محمد نفقة، فدخل خراسان وهو كذلك، ثم آل به الحال حتى صارت له خراسان بأزمتها وحذافيرها.
وذكر أنه في ذهابه إليها عدا رجل من بعض الحانات فقطع ذنب حماره، فلما تمكن أبو مسلم جعل ذلك المكان دكا، فكان بعد ذلك خرابا.
وذكر بعضهم أنه أصابه سبي في صغره، وأنه اشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم، ثم أن إبراهيم بن محمد الإمام استوهبه واشتراه فانتمى إليه وزوجه إبراهيم بنت أبي النجم إسماعيل الطائي، أحد دعاتهم، لما بعثه إلى خراسان، وأصدقها عنه أربعمائة درهم، فولد لأبي مسلم بنتان: إحداهما أسماء أعقبت، وفاطمة لم تعقب.
وقد تقدم ذكر كيفية استقلال أبي مسلم بأمور خراسان في سنة تسع وعشرين ومائة، وكيف نشر دعوة بني العباس، وقد كان ذا هيبة وصرامة وإقدام وتسرع في الأمور.
وقد روى ابن عساكر بإسناده: أن رجلا قام إلى أبي مسلم وهو يخطب فقال: ما هذا السواد الذي أرى عليك؟
فقال: حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله: «أن رسول الله ﷺدخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء». وهذه ثياب الهيئة وثياب الدولة. يا غلام اضرب عنقه.
وروى من حديث عبد الله بن منيب، عنه، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: «من أراد هوان قريش أهانه الله».
وقد كان إبراهيم بن ميمون الصائغ من أصحابه وجلسائه في زمن الدعوة، وكان يعده إذا ظهر أن يقيم الحدود، فلما تمكن أبو مسلم ألح عليه إبراهيم بن ميمون في القيام بما وعده به حتى أحرجه، فأمر بضرب عنقه، وقال له: لم لا كنت تنكر على نصر بن سيار وهو يعمل أواني الخمر من الذهب فيبعثها إلى بني أمية؟
فقال له: إن أولئك لم يقربوني من أنفسهم ويعدوني منها ما وعدتني أنت.
وقد رأى بعضهم لإبراهيم بن ميمون هذا منازل عالية في الجنة بصبره على المعروف والنهي عن المنكر، فإنه كان آمرا ناهيا قائما في ذلك، فقتله أبو مسلم رحمه الله.
وقد ذكرنا طاعة أبي مسلم للسفاح واعتناءه بأمره وامتثال مراسيمه، فلما صار الأمر إلى المنصور استخف به واحتقره، ومع هذا بعثه المنصور إلى عمه عبد الله إلى الشام فكسره واستنقذ منه الشام وردها إلى حكم المنصور.
ثم شمخت نفسه على المنصور وهمَّ بقتله، ففطن لذلك المنصور مع ما كان مبطنا له من البغضة، وقد سأل أخاه السفاح غير مرة أن يقتله كما تقدم ذلك فأبى عليه، فلما تولى المنصور ما زال يماكره ويخادعه حتى قدم عليه فقتله.
قال بعضهم: كتب المنصور إلى أبي مسلم: أما بعد فإنه يرين على القلوب ويطبع عليها المعاصي، فع ِ أيها الطائش، وأفق أيها السكران، وانتبه أيها النائم، فإنك مغرور بأضغاث أحلام كاذبة، في برزخ دنيا قد غرت من كان قبلك وسم بها سوالف القرون: { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا } [مريم: 98] .
وإن الله لا يعجزه من هرب، ولا يفوته من طلب، فلا تغتر بمن معك من شيعتي وأهل دعوتي، فكأنهم قد صالوا عليك بعد أن صالوا معك، إن أنت خلعت الطاعة وفارقت الجماعة وبدا لك من الله ما لم تكن تحتسب، مهلا مهلا، احذر البغي أبا مسلم ! فإنه من بغى واعتدى تخلى الله عنه، ونصر عليه من يصرعه لليدين والفم، واحذر أن تكون سنة في الذين قد خلوا من قبلك، ومثلة لمن يأتي بعدك، فقد قامت الحجة وأعذرت إليك وإلى أهل طاعتي فيك.
قال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } [الأعراف: 175] .
فأجابه أبو مسلم: أما بعد فقد قرأت كتابك فرأيتك فيه للصواب مجانبا، وعن الحق حائدا إذ تضرب فيه الأمثال على غير أشكالها، وكتبت إلي فيه آيات منزلة من الله للكافرين، وما يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
وإنني والله ما انسلخت من آيات الله، ولكنني يا عبد الله بن محمد كنت رجلا متأولا فيكم من القرآن آيات أوجبت لكم بها الولاية والطاعة، فأتممت بأخوين لك من قبلك ثم بك من بعدهما، فكنت لهما شيعة متدينا أحسبني هاديا مهتديا، وأخطأت في التأويل وقدما أخطأ المتأولون، وقد قال الله تعالى: { وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام: 54] .
وإن أخاك السفاح ظهر في صورة مهدي وكان ضالا فأمرني أن أجرد السيف، وأقتل بالظنة، وأقدم بالشبهة، وأرفع الرحمة، ولا أقيل العثرة، فوترت أهل الدنيا في طاعتكم، وتوطئة سلطانكم حتى عرّفكم الله من كان جهلكم.
ثم إن الله سبحانه تداركني منه بالندم واستنقذني بالتوبة، فإن يعف عني ويصفح فإنه كان للأوابين غفورا، وإن يعاقبني فبذنوبي وما ربك بظلام للعبيد.
فكتب إليه المنصور: أما بعد أيها المجرم العاصي، فإن أخي كان إمام هدى يدعو إلى الله على بينة من ربه، فأوضح لك السبيل، وحملك على المنهج السديد، فلو بأخي اقتديت لما كنت عن الحق حائدا، وعن الشيطان وأوامره صادرا، ولكنه لم يسنح لك أمران إلا كنت لأرشدهما تاركا، ولأغواهما راكبا، تقتل قتل الفراعنة، وتبطش بطش الجبابرة، وتحكم بالجور حكم المفسدين، وتبذر المال وتضعه في غير مواضعه فعل المسرفين.
ثم من خبري أيها الفاسق أني قد وليت موسى بن كعب خراسان، وأمرته أن يقيم بنيسابور، فإن أردت خراسان لقيك بمن معه من قوادي وشيعتي، وأنا موجه للقائك أقرانك، فاجمع كيدك وأمرك غير مسدد ولا موفق، وحسب أمير المؤمنين ومن اتبعه الله ونعم الوكيل.
ولم يزل المنصور يراسله تارة بالرغبة وتارة بالرهبة، ويستخف أحلام من حوله من الأمراء والرسل الذين يبعثهم أبو مسلم إلى المنصور ويعدهم، حتى حسنوا لأبي مسلم في رأيه القدوم عليه سوى أمير معه يقال له: نيزك، فإنه لم يوافق على ذلك، فلما رأى أبا مسلم وقد انطاع لهم أنشد عن ذلك البيت المتقدم وهو:
ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام
وأشار عليه بأن يقتل المنصور ويستخلف بدله فلم يمكنه ذلك، فإنه لما قدم المدائن تلقاه الأمراء عن أمر الخليفة، فما وصل إلا آخر النهار، وقد أشار أبو أيوب كاتب الرسائل أن لا يقتله يومه هذا كما تقدم، فلما وقف بين يدي الخليفة أكرمه وعظمه وأظهر احترامه، وقال: اذهب الليلة فأذهب عنك وعثاء السفر، ثم ائتني من الغد.
فلما كان الغد أرصد له من الأمراء من يقتله منهم: عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج، فقتلوه كما تقدم.
ويقال: بل أقام أياما يظهر له المنصور الإكرام والاحترام، ثم نشق منه الوحشة فخاف مسلم، واستشفع بعيسى بن موسى واستجار به، وقال: إني أخافه على نفسي.
فقال: لا بأس عليك، فانطلق فإني آت وراءك، أنت في ذمتي حتى آتيك - ولم يكن مع عيسى خبر بما يريد به الخليفة -.
فجاء أبو مسلم يستأذن المنصور فقالوا له: اجلس هاهنا فإن أمير المؤمنين يتوضأ، فجلس وهو يود أن يطول مجلسه ليجيء عيسى بن موسى فأبطأ، وأذن له الخليفة فدخل عليه فجعل يعاتبه في أشياء صدرت منه فيعتذر عنها جيدا، حتى قال له: فلم قتلت سليمان بن كثير، وإبراهيم بن ميمون، وفلانا، وفلانا؟
قال: لأنهم عصوني وخالفوا أمري.
فغضب عند ذلك المنصور وقال: ويحك ! أنت تقتل إذا عصيت، وأنا لا أقتلك وقد عصيتني؟
وصفق بيديه - وكانت الإشارة بينه وبين المرصدين لقتله - فتبادروا إليه ليقتلوه فضربه أحدهم فقطع حمائل سيفه، فقال: يا أمير المؤمنين ! استبقني لأعدائك.
فقال: وأي عدو أعدى منك؟
ثم زجرهم المنصور فقطعوه قطعا ولفوه في عباءة، ودخل عيسى بن موسى على أثر ذلك فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين؟
فقال: هذا أبو مسلم.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال له المنصور: احمد الله الذي هجمت عليَّ نعمة، ولم تهجم عليَّ نقمة.
ففي ذلك يقول أبو دلامة:
أبا مسلم ما غيّر الله من نعمة * على عبده حتى يغيرها العبد
أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى * عليك بما خوفتني الأسد الورد
وذكر ابن جرير: أن المنصور تقدم إلى عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج، وأبي حنيفة حرب بن قيس، وآخر من الحرس أن يكونوا قريبا منه، فإذا دخل عليه أبو مسلم وخاطبه وضرب بإحدى يديه على الأخرى فليقتلوه، فلما دخل عليه أبو مسلم قال له المنصور: ما فعل السيفان اللذان أصبتهما من عبد الله بن علي؟
فقال: هذا أحدهما.
فقال: أرنيه.
فناوله السيف فوضعه تحت ركبته.
ثم قال له: ما حملك على أن تكتب لأبي عبد الله السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين؟
قال: إنني ظننت أن أخذه لا يحل، فلما جاءني كتاب أمير المؤمنين علمت أنه وأهل بيته معدن العلم.
قال: فلم تقدمت عليَّ في طريق الحج؟
قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمت التماس الرفق.
قال: فلم لا رجعت إلي حين أتاك خبر موت أبي العباس؟
قال: كرهت التضييق على الناس في طريق الحج، وعرفت أنا سنجتمع بالكوفة، وليس عليك مني خلاف.
قال: فجارية عبد الله بن علي أردت أن تتخذها لنفسك؟
قال: لا ! ولكن خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها.
ثم قال له: ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك؟ والكاتب إلي تخطب آمنة بنت علي؟ وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس؟ هذا كله ويد المنصور في يده يعركها ويقبلها ويعتذر.
ثم قال له: فما حملك على مراغمتي ودخولك إلى خراسان؟
قال: خفت أن يكون دخلك مني شيء فأردت أن أدخل خراسان وأكتب إليك بعذري.
قال: فلم قتلت سليمان بن كثير وكان من نقبائنا ودعاتنا قبلك؟
قال: أراد خلافي.
فقال: ويحك ! وأنت أردت خلافي وعصيتني، قتلني الله إن لم أقتلك.
ثم ضربه بعمود الخيمة وخرج إليه أولئك فضربه عثمان فقطع حمائل سيفه، وضربه شبيب فقطع رجله، وحمل عليه بقيتهم بالسيوف، والمنصور يصيح ويحكم ! اضربوه قطع الله أيديكم.
ثم ذبحوه وقطعوه قطعا قطعا، ثم ألقي في دجلة.
ويرى أن المنصور لما قتله وقف عليه فقال: رحمك الله أبا مسلم ! بايعتنا فبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيت لنا فوفينا لك، وإنا بايعناك على أن لا يخرج علينا أحد في هذه الأيام إلا قتلناه، فخرجت علينا فقتلناك، وحكمنا عليك حكمك على نفسك لنا.
ويقال: إن المنصور قال: الحمد لله الذي أرانا يومك يا عدو الله.
قال ابن جرير: وقال المنصور عند ذلك:
زعمت أن الدين لا يقتضى * فاستوف بالكيل أبا مجرم
سقيت كأسا كنت تسقي بها * أمرَّ في الحلق من العلقم
ثم إن المنصور خطب في الناس بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس ! لا تنفروا أطيار النعم بترك الشكر، فتحل بكم النقم، ولا تسروا غش الأئمة فإن أحدا لا يسر منكم شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره، وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه، حتى يستقيم رجالكم، وترتدع عمالكم.
وإن هذا الغمر أبا مسلم بايع على أنه من نكث بيعتنا وأظهر غشنا فقد أباحنا دمه، فنكث وغدر وفجر وكفر، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، وإن أبا مسلم أحسن مبتديا وأساء منتهيا، وأخذ من الناس بنا لنفسه أكثر مما أعطانا.
ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علم اللائم لنا فيه لما لام، ولو اطلع على ما اطلعنا عليه منه لعذرنا في قتله، وعنفنا في إمهاله، ومازال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمناه فيه حكمه في غيره ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه، وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان - يعني: ابن المنذر -:
فمن أطاعك فانفعه بطاعته * كما أطاعك والله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبةً * تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
وقد روى البيهقي، عن الحاكم، بسنده: أن عبد الله بن المبارك سئل عن أبي مسلم: أهو خير أم الحجاج؟
فقال: لا أقول أن أبا مسلم كان خيرا من أحد، ولكن كان الحجاج شرا منه، قد اتهمه بعضهم على الإسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة العباسية، والله أعلم بأمره.
وقد روى الخطيب، عنه، أنه قال: ارتديت الصبر، وآثرت الكفاف، وحالفت الأحزان والأشجان، وشامخت المقادير والأحكام، حتى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي.
ثم أنشأ يقول:
قد نلت بالعزم والكتمان ما عجزت * عنه ملوك بني مروان إذا حشدوا
ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا * من رقدة لم ينمها قبلهم أحد
وطفت أسعى عليهم في ديارهم * والقوم في ملكهم في الشام قد رقدوا
ومن رعى غنما في أرض مسبعة * ونام عنها تولى رعيها الأسد
وقد كان قتل أبي مسلم بالمدائن يوم الأربعاء لسبع خلون، وقيل: لخمس بقين، وقيل: لأربع، وقيل: لليلتين بقيتا من شعبان من هذه السنة - أعني: سنة سبع وثلاثين ومائة -.
قال بعضهم: كان ابتداء ظهوره في رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل: في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة.
وزعم بعضهم أنه قتل ببغداد في سنة أربعين، وهذا غلط من قائله، فإن بغداد لم تكن بنيت بعد كما ذكره الخطيب في تاريخ بغداد، وردَّ هذا القول.
ثم إن المنصور شرع في تأليف أصحاب أبي مسلم بالأعطية والرغبة والرهبة والولايات، واستدعى أبا إسحاق - وكان من أعز أصحاب أبي مسلم - وكان على شرطة أبي مسلم، وهمَّ بضرب عنقه فقال: يا أمير المؤمنين ! والله ما أمنت قط إلا في هذا اليوم، وما من يوم كنت أدخل عليه إلا تحنطت ولبست كفني.
ثم كشف عن ثيابه التي تلي جسده فإذا هو محنط، وعليه أدراع أكفان، فرقَّ له المنصور وأطلقه.
وذكر ابن جرير: أن أبا مسلم قتل في حروبه وما كان يتعاطاه لأجل دولة بني العباس ستمائة ألف صبرا زيادة عن من قتل بغير ذلك.
وقد قال للمنصور وهو يعاتبه على ما كان يصنعه: يا أمير المؤمنين ! لا يقال لي هذا بعد بلائي وما كان مني.
فقال له: يا ابن الخبيثة ! لو كانت أمة مكانك لأجزأت ناحيتها، إنما عملت ما عملت بدولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك لما وصلت إلى فتيل.
ولما قتله المنصور لفه في كساء وهو مقطع إربا إربا، فدخل عيسى بن موسى فقال: يا أمير المؤمنين ! أين أبو مسلم؟
قال: قد كان هاهنا آنفا.
فقال: يا أمير المؤمنين ! قد عرفت طاعته ونصيحة ورأي إبراهيم الإمام فيه.
فقال له: يا أنوك ! والله ما أعلم في الأرض عدوا أعدى لك منه، هاهو ذاك في البساط.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال له المنصور: خلع الله قلبك ! وهل كان لكم مكان أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم؟
ثم استدعى المنصور برؤوس الأمراء فجعل يستشيرهم في قتل أبي مسلم قبل أن يعلموا بقتله، فكلهم يشير بقتله، ومنهم من كان إذا تكلم أسر كلامه خوفا من أبي مسلم لئلا ينقل إليه، فلما أطلعهم على قتله أفزعهم ذلك وأظهروا سرورا كثيرا.
ثم خطب المنصور الناس بذلك كما تقدم.
ثم كتب المنصور إلى نائب أبي مسلم على أمواله وحواصله بكتاب على لسان أبي مسلم أن يقدم بجميع ما عنده من الحواصل والذخائر والأموال والجواهر، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، بكماله مطبوعا بكل فص الخاتم، فلما رآه الخازن استراب في الأمر، وقد كان أبي مسلم تقدم إلى خازنه: أنه إذا جاءك كتابي فإن رأيته مختوما بنصف الفص فامض لما فيه، فإني إنما أختم بنصف فصه على كتبي، وإذا جاءك الكتاب مختوما عليه بكماله، فلا تقبل ولا تمض ما فيه.
فامتنع عند ذلك خازنه أن يقبل ما بعث به المنصور، فأرسل المنصور بعد ذلك إليه من أخذ جميع ذلك وقتل ذلك الرجل الخازن، وكتب المنصور إلى أبي داود إبراهيم بن خالد بإمرة خراسان، كما وعده قبل ذلك عوضا عن أبي مسلم.
وفي هذه السنة: خرج سنباذ يطلب بدم أبي مسلم، وقد كان سنباذ هذا مجوسيا تغلب على قومس وأصبهان، ويسمى: بفيروز أصبهبذ، فبعث إليه أبو جعفر المنصور جيشا هم عشرة آلاف فارس عليهم جهور بن مرار العجلي، فالتقوا بين همذان والري بالمفازة، فهزم جهور لسنباذ وقتل من أصحابه ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم، وقتل سنباذ بعد ذلك فكانت أيامه سبعين يوما.
وأخذ ما كان استحوذ عليه من أموال أبي مسلم التي كانت بالري.
وخرج في هذه السنة أيضا: رجل يقال له: ملبَّد بن حرمة الشيباني، في ألف من الخوارج بالجزيرة، فجهز إليه المنصور جيوشا متعددةً كثيفةً كلها تنفر منه وتنكسر، ثم قاتله حميد بن قحطبة نائب الجزيرة، فهزمه ملبَّد وتحصن منه حميد في بعض الحصون، ثم صالحه حميد بن قحطبة على مائة ألف فدفعها إليه وقبلها ملبَّد وتقلع عنه.
وحج بالناس في هذه السنة عم الخليفة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس.
قال الواقدي: وكان نائب الموصل - يعني: عم المنصور - وعلى نيابة الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى خراسان أبو داود إبراهيم بن خالد، وعلى الحجاز زياد بن عبد الله.
ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل الخليفة بسنباذ وغيره.
ومن مشاهير من توفي فيها: أبو مسلم الخراساني كما تقدم، ويزيد بن أبي زياد أحد من تكلم فيه، كما ذكرناه في التكميل، والله سبحانه أعلم.