→ ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة | البداية والنهاية – الجزء العاشر ترجمة أبي العباس السفاح أول خلفاء بني العباس ابن كثير |
خلافة أبي جعفر المنصور ← |
هو: عبد الله السفاح - ويقال له: المرتضى، والقاسم أيضا - ابن محمد بن الإمام بن علي السجاد بن عبد الله الحبر بن العباس بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، أمير المؤمنين، وأمه: ريطة - ويقال: رايطة - بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد الدار الحارثي.
كان مولد السفاح بالحميمة من أرض الشراة من البلقاء بالشام، ونشأ بها حتى أخذ مروان أخاه إبراهيم الإمام فانتقلوا إلى الكوفة.
بويع بالخلافة بعد مقتل أخيه في حياة مروان يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول بالكوفة كما تقدم.
وتوفي بالجدري بالأنبار يوم الأحد الحادي عشر، وقيل: الثالث عشر من ذي الحجة، سنة ست وثلاثين ومائة.
وكان عمره ثلاثا، وقيل: ثنتين، وقيل: إحدى وثلاثين سنة، وقيل: ثمان وعشرين سنة. قاله غير واحد.
وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وكان أبيض جميلا طويلا، أقنى الأنف، جعد الشعر، حسن اللحية، حسن الوجه، فصيح الكلام، حسن الرأي، جيد البديهة.
دخل عليه في أول ولايته عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ومعه مصحف وعند السفاح وجوه بني هاشم من أهل بيته وغيرهم، فقال له: يا أمير المؤمنين ! أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف.
قال: فأشفق عليه الحاضرون أن يعجل السفاح عليه بشيء أو يترك جوابه فيبقى ذلك مسبة عليه وعليهم.
فأقبل السفاح عليه غير مغضب ولا منزعج، فقال: إن جدك عليا، كان خيرا مني وأعدل، وقد ولي هذا الأمر فأعطى جديك الحسن والحسين وكانا خيرا منك، شيئا قد أعطيتكه وزدتك عليه، فما كان هذا جزائي منك.
قال: فما رد عليه عبد الله بن حسن جوابا، وتعجب الناس من سرعة جوابه وجدته وجودته على البديهة.
وقد وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا الأعمش، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله ﷺ: «يخرج عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن رجل يقال له: السفاح، يكون إعطاؤه المال حثيا».
وكذا رواه زائدة وأبو معاوية، عن الأعمش، به.
وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وقد تكلموا فيه.
وفي أن المراد بهذا الحديث هذا السفاح نظر، والله أعلم.
وقد ذكرنا فيما تقدم عند زوال دولة بني أمية أخبارا وآثارا في مثل هذا المعنى.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلمة بن محمد بن هشام، أخبرني محمد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثني داود بن عيسى، عن أبيه، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وهو: والد السفاح - قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من النصارى فقال له عمر: من تجدون الخليفة بعد سليمان؟
قال له: أنت !
فأقبل عمر بن عبد العزيز عليه فقال له: زدني من بيانك.
فقال: ثم آخر، إلى أن ذكر خلافة بني أمية إلى آخرها.
قال محمد بن علي: فلما كان بعد ذلك جعلت ذلك النصراني في بالي فرأيته يوما فأمرت غلامي أن يحبسه عليَّ، وذهبت إلى منزلي فسألته عما يكون في خلفاء بني أمية فذكرهم واحدا واحدا، وتجاوز عن مروان بن محمد.
قلت: ثم من؟
قال: ثم ابن الحارثية، وهو ابنك.
قال: وكان ابني ابن الحارثية إذ ذاك حملا.
قال: ووفد أهل المدينة على السفاح فبادروا إلى تقبيل يده غير عمران بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع العدوي، فإنه لم يقبل يده، إنما حياه بالخلافة فقط.
وقال: والله يا أمير المؤمنين ! لو كان تقبيلها يزيدك رفعة ويزيدني وسيلة إليك ما سبقني إليها أحد من هؤلاء، وإني لغني عما لا أجر فيه، وربما قادنا عمله إلى الوزر، ثم جلس.
قال: فوالله ما نقصه ذلك عنده حظا من حظ أصحابه، بل أحبه وزاده.
وذكر القاضي المعافى بن زكريا: أن السفاح بعث رجلا ينادي في عسكر مروان بهذين البيتين ليلا ثم رجع:
يا آل مروان إن الله مهلككم * ومبدل أمنكم خوفا وتشريدا
لا عمَّر الله من أنسالكم أحدا * وبثكم في بلاد الخوف تطريدا
وروى الخطيب البغدادي أن السفاح نظر يوما في المرآة - وكان من أجمل الناس وجها - فقال: اللهم لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك: أنا الخليفة الشاب، ولكن أقول: اللهم عمرني طويلا في طاعتك ممتعا بالعافية.
فما استتم كلامه حتى سمع غلاما يقول لآخر: الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام.
فتطير من كلامه وقال: حسبي الله لا قوة إلا بالله عليه توكلت وبه أستعين. فمات بعد شهرين وخمسة أيام.
وذكر محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي: أن الرشيد أمر ابنه أن يسمع من إسحاق بن عيسى بن علي ما يرويه عن أبيه في قصة السفاح، فأخبره عن أبيه عيسى، أنه دخل على السفاح يوم عرفة بكرة فوجده صائما، فأمره أن يحادثه في يومه هذا ثم يختم ذلك بفطره عنده.
قال: فحادثته حتى أخذه النوم فقمت عنه وقلت: أقيل في منزلي ثم أجيء بعد ذلك.
فذهبت فنمت قليلا ثم قمت فأقبلت إلى داره فإذا على بابه بشير يبشر بفتح السند وبيعتهم للخليفة وتسليم الأمور إلى نوابه.
قال: فحمدت الله الذي وفقني في الدخول عليه بهذه البشارة، فدخلت الدار فإذا بشير أخر معه بشارة بفتح إفريقية، فحمدت الله فدخلت عليه فبشرته بذلك وهو يسرح لحيته بعد الوضوء، فسقط المشط من يده ثم قال: سبحان الله، كل شيء بائد سواه، نعيت والله إليَّ نفسي، حدثني إبراهيم الإمام، عن أبي هشام، عن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن رسول الله ﷺأنه قال: «يقدم عليَّ في مدينتي هذه وافدان: وافد السند والآخر وافد إفريقية بسمعهم وطاعتهم وبيعتهم، فلا يمضي بعد ذلك ثلاثة أيام حتى أموت».
قال: وقد أتاني الوافدان فأعظم الله أجرك يا عم في ابن أخيك.
فقلت: كلا يا أمير المؤمنين ! إن شاء الله.
قال: بلى ! إن شاء الله، لئن كانت الدنيا حبيبة إليَّ فالآخرة أحب إلي، ولقاء ربي خير لي، وصحة الرواية عن رسول الله بذلك أحب إلي منها، والله ما كَذبت ولا كُذبت.
ثم نهض فدخل منزله وأمرني بالجلوس، فلما جاء المؤذن يعلمه بوقت الظهر خرج الخادم يعلمني أن أصلي عنه، وكذلك العصر والمغرب والعشاء، وبت هناك، فلما كان وقت السحر أتاني الخادم بكتاب معه يأمرني أن أصلي عنه الصبح والعيد ثم أرجع إلى داره، وفيه يقول: يا عم ! إذا مت فلا تعلم الناس بموتي حتى تقرأ عليهم هذا الكتاب فيبايعوا لمن فيه.
قال: فصليت بالناس ثم رجعت إليه فإذا ليس به بأس، ثم دخلت عليه من آخر النهار فإذا هو على حاله غير أنه قد خرجت في وجهه حبتان صغيرتان، ثم كبرتا، ثم صار في وجهه حب صغار بيض، يقال: إنه جدري، ثم بكرت إليه في اليوم الثاني فإذا هو قد هجر وذهبت عنه معرفتي ومعرفة غيري، ثم رجعت إليه بالعشي فإذا هو انتفخ حتى صار مثل الزق، وتوفي اليوم الثالث من أيام التشريق، فسجيته كما أمرني، وخرجت إلى الناس فقرأت عليهم كتابه فإذا فيه: من عبد الله أمير المؤمنين إلى الأولياء وجماعة المسلمين، سلام عليكم أما بعد فقد قلد أمير المؤمنين الخلافة عليكم بعد وفاته أخاه فاسمعوا وأطيعوا، وقد قلدها من بعده عيسى بن موسى إن كان.
قال: فاختلف الناس في قوله: إن كان، قيل: إن كان أهلا لها، وقال آخرون: إن كان حيا.
وهذا القول الثاني هو الصواب، ذكره الخطيب وابن عساكر مطولا. وهذا ملخص منه. وفيه ذكر الحديث المرفوع وهو منكر جدا.
وذكر ابن عساكر أن الطبيب دخل عليه فأخذ بيده فأنشأ يقول عند ذلك:
انظر إلى ضعف الحرا * ك وذله بعد السكون
ينبيك أن بيانه * هذا مقدمة المنون
فقال الطبيب: أنت صالح.
فأنشأ يقول:
يبشرني بأني ذو صلاح * يبين له وبي داء دفين
ولقد أيقنت إني غير باق * ولا شك إذا وضح اليقين
قال أهل العلم: كان آخر ما تكلم به السفاح:
الملك لله الحي القيوم، ملك الملوك، وجبار الجبابرة.
وكان نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله.
وكان موته بالجدري في يوم الأحد الثالث عشر من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة بالأنبار العتيقة، عن ثلاث وثلاثين سنة.
وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر على أشهر الأقوال.
وصلى عليه عمه عيسى بن علي، ودفن في قصر الإمارة من الأنبار.
وترك: تسع جبات، وأربعة أقمصة، وخمس سراويلات، وأربعة طيالسة، وثلاث مطارف خز.
وقد ترجمه ابن عساكر فذكر بعض ما أوردناه، والله أعلم.
وممن توفي فيها من الأعيان: السفاح كما تقدم، وأشعث بن سوار، وجعفر بن أبي ربيعة، وحصين بن عبد الرحمن، وربيعة الراعي، وزيد بن أسلم، وعبد الملك بن عمير، وعبد الله بن أبي جعفر، وعطاء بن السائب، وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل ولله الحمد.