→ ومعن بن زائدة | البداية والنهاية – الجزء العاشر القاضي أبو يوسف ابن كثير |
يعقوب بن داوود بن طهمان ← |
واسمه يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حسنة، وهي أمه، وأبوه بجير بن معاوية، استصغر يوم أحد، وأبو يوسف كان أكبر أصحاب أبي حنيفة.
روى الحديث عن: الأعمش، وهمام بن عروة، ومحمد بن إسحاق، ويحيى بن سعيد، وغيرهم.
وعنه: محمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين.
قال علي بن الجعد: سمعته يقول: توفي أبي وأنا صغير فأسلمتني أمي إلى قصار، فكنت أمرُّ على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها، فكانت أمي تتبعني فتأخذ بيدي من الحلقة وتذهب بي إلى القصار، ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة، فلما طال ذلك عليها قالت لأبي حنيفة: إن هذا صبي يتيم ليس له شيء إلا ما أطعمه من مغزلي، وإنك قد أفسدته علي.
فقال لها: اسكتي يا رعناء، هاهوذا يتعلم العلم وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق في صحون الفيروزج.
فقالت له: إنك شيخ قد خرفت.
قال أبو يوسف: فلما وليت القضاء - وكان أول من ولاه القضاء الهادي، وهو أول من لقب قاضي القضاة، وكان يقال له: قاضي قضاة الدنيا، لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم التي يحكم فيها الخليفة -.
قال أبو يوسف: فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد إذ أتي بفالوذج في صحن فيروزج فقال لي: كل من هذا، فإنه لا يصنع لنا في كل وقت.
وقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين؟
فقال: هذا الفالوذج.
قال: فتبسمت، فقال: مالك تتبسم؟
فقلت: لاشيء أبقى الله أمير المؤمنين.
فقال: لتخبرني.
فقصصت عليه القصة فقال: إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة.
ثم قال: رحم الله أبا حنيفة، فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه.
وكان أبو حنيفة يقول عن أبي يوسف: إنه أعلم أصحابه.
وقال المزني: كان أبو يوسف أتبعهم للحديث.
وقال ابن المديني: كان صدوقا.
وقال ابن معين: كان ثقة.
وقال أبو زرعة: كان سليما من التجهم.
وقال بشار الخفاف: سمعت أبا يوسف، يقول: من قال: القرآن مخلوق، فحرام كلامه، وفرض مباينته، ولا يجوز السلام ولا رده عليه.
ومن كلامه الذي ينبغي كتابته بماء الذهب قوله: من طلب المال بالكيما، أفلس، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب العلم بالكلام تزندق.
ولما تناظر هو ومالك بالمدينة بحضرة الرشيد في مسألة الصاع وزكاة الخضروات احتج مالك بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولة عن آبائهم وأسلافهم، وبأنه لم يكن الخضروات يخرج فيها شيء في زمن الخلفاء الراشدين.
فقال أبو يوسف: لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. وهذا إنصاف منه.
وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم، حتى إن أحمد بن حنبل كان شابا وكان يحضر مجلسه في أثناء الناس فيتناظرون ويتباحثون، وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضا.
وقال: وليت هذا الحكم وأرجو الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل إلى أحد، إلا يوما واحدا جاءني رجل فذكر أن له بستانا وأنه في يد أمير المؤمنين، فدخلت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال: البستان لي اشتراه لي المهدي.
فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لأسمع دعواه.
فأحضره فادعى بالبستان فقلت: ما تقول يا أمير المؤمنين؟
فقال: هو بستاني.
فقلت للرجل: قد سمعت ما أجاب.
فقال الرجل: يحلف.
فقلت: أتحلف يا أمير المؤمنين؟
فقال: لا.
فقلت: سأعرض عليك اليمين ثلاثا فإن حلفت وإلا حكمت عليك يا أمير المؤمنين.
فعرضتها عليه ثلاثا فامتنع فحكمت بالبستان للمدعي.
قال: فكنت في أثناء الخصومة أود أن ينفصل ولم يمكني أن أجلس الرجل مع الخليفة.
وبعث القاضي أبو يوسف في تسليم البستان إلى الرجل.
وروى المعافى بن زكريا الجريري، عن محمد بن أبي الأزهر، عن حماد بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، قال: بينا أنا ذات ليلة قد نمت في الفراش، إذا رسول الخليفة يطرق الباب، فخرجت منزعجا فقال: أمير المؤمنين يدعوك.
فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى بن جعفر، فقال لي الرشيد: إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها فلم يفعل، أو يبعنيها، وإني أشهدك إن لم يجبني إلى ذلك قتلته.
فقلت لعيسى: لم لم تفعل؟
فقال: إني حالف بالطلاق والعتاق وصدقة مالي كله أن لا أبيعها ولا أهبها.
فقال لي الرشيد: فهل له من مخلص؟
فقلت: نعم، يبيعك نصفها ويهبك نصفها.
فوهبه النصف وباعه النصف بمائة ألف دينار.
فقبل منه ذلك وأحضرت الجارية، فلما رآها الرشيد قال: هل لي من سبيل عليها الليلة؟
قلت: إنها مملوكة ولا بد من استبرائها، إلا أن تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ.
قال: فأعتقها وتزوجها منه بعشرين ألف دينار، وأمر لي بمائتي ألف درهم وعشرين تختا من ثياب، وأرسلت إلى الجارية بعشرة آلاف دينار.
قال يحيى بن معين: كنت عند أبي يوسف فجاءته هدية من ثياب ديبقي وطيب وفانيل ندٍّ وغير ذلك، فذاكرني رجل في إسناد حديث: «من أهديت له هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه».
فقال أبو يوسف: إنما ذاك في الأقط والتمر والزبيب، ولم تكن الهدايا في ذلك الوقت ما ترون، يا غلام ارفع هذا إلى الخزائن، ولم يعطهم منها شيئا.
وقال بشر بن غياث المريسي: سمعت أبا يوسف، يقول: صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت على الدنيا سبع عشرة سنة، وما أظن أجلي إلا أن اقترب.
فما مكث بعد ذلك إلا شهورا حتى مات.
وقد مات أبو يوسف في ربيع الأول من هذه السنة عن سبع وستين سنة، ومكث في القضاء بعده ولده يوسف.
وقد كان نائبه على الجانب الشرقي من بغداد.
ومن زعم من الرواة أن الشافعي اجتمع بأبي يوسف كما يقوله عبد الله بن محمد البلوي الكذاب في الرحلة التي ساقها الشافعي فقد أخطأ في ذلك، إنما ورد الشافعي بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين، وإنما اجتمع الشافعي بمحمد بن الحسن الشيباني فأحسن إليه وأقبل عليه، ولم يكن بينهما شنآن كما يذكره بعض من لا خبره له في هذا الشأن، والله أعلم.
وفيها توفي: