→ أبو عثمان المازني النحوي | البداية والنهاية – الجزء العاشر ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين ابن كثير |
الجزء الحادي عشر ← |
فيها: أغزى المنتصر وصيفا التركي الصائفة لقتال الروم، وذلك أن ملك الروم قصد بلاد الشام، فعند ذلك جهز المنتصر وصيفا، وجهز معه نفقات وعددا كثيرةً، وأمره إذا فرغ من قتال الروم أن يقيم بالثغر أربع سنين، وكتب له إلى محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق كتابا عظيما فيه آيات كثيرة في التحريض للناس على القتال والترغيب فيه.
وفي ليلة السبت لسبع بقين من صفر: خلع أبو عبد الله المعتز والمؤيد إبراهيم أنفسهما من الخلافة، وأشهدا عليهما بذلك، وأنهما عاجزان عن الخلافة، والمسلمين في حلٍّ من بيعتهما، وذلك بعد ما تهددهما أخوهما المنتصر وتوعدهما بالقتل إن لم يفعلا ذلك، ومقصوده تولية ابنه عبد الوهاب بإشارة أمراء الأتراك بذلك.
وخطب بذلك على رؤوس الأشهاد بحضرة القواد والقضاة وأعيان الناس والعوام، وكتب بذلك إلى الآفاق ليعلموا بذلك، ويخطبوا له بذلك على المنابر، ويتوالى على محال الكتابة، والله غالب على أمره، فأراد أن يسلبهما الملك، ويجعله في ولده، والأقدار تكذبه وتخالفه، وذلك أنه لم يستكمل بعد قتل أبيه سوى ستة أشهر، ففي أواخر صفر من هذه السنة عرضت له علة كان فيها حتفه، وقد كان المنتصر رأى في منامه كأنه يصعد سلما فبلغ إلى آخر خمس وعشرين درجة.
فقصها على بعض المعبرين فقال: تلي خمسا وعشرين سنة الخلافة، وإذا هي مدة عمره قد استكملها في هذه السنة.
وقال بعضهم: دخلنا عليه يوما فإذا هو يبكي وينتحب شديدا، فسأله بعض أصحابه عن بكائه فقال: رأيت أبي المتوكل في منامي هذا وهو يقول: ويلك يا محمد ! قتلتني وظلمتني وغصبتني خلافتي، والله لا أمتعت بها بعدي إلا أياما يسيرة ثم مصيرك إلى النار.
قال: فما أملك عيني ولا جزعي.
فقال له أصحابه من الغرارين الذين يغرون الناس ويفتنونهم: هذه رؤيا، وهي تصدق وتكذب، قم بنا إلى الشراب ليذهب همك وحزنك.
فأمر بالشراب فأحضر، وجاء ندماؤه فأخذ في الخمر وهو منكسر الهمة، وما زال كذلك مكسورا حتى مات.
وقد اختلفوا في علته التي كان فيها هلاكه، فقيل: داء في رأسه فقطر في أذنه دهن فلما وصل إلى دماغه عوجل بالموت.
وقيل: بل ورمت معدته فانتهى الورم إلى قلبه فمات.
وقيل: بل أصابته ذبحة فاستمرت به عشرة أيام فمات.
وقيل: بل فصده الحجام بمفصد مسموم فمات من يومه.
قال ابن جرير: أخبرني بعض أصحابنا أن هذا الحجام رجع إلى منزله وهو محموم فدعا تلميذا له حتى يفصده فأخذ مبضع أستاذه ففصده به، وهو لا يشعر وأنسى الله سبحانه الحجام، فما ذكر حتى رآه قد فصده به، وتحكم فيه السم، فأوصى عند ذلك ومات من يومه.
وذكر ابن جرير أن أم الخليفة دخلت عليه وهو في مرضه الذي مات فيه فقالت له: كيف حالك؟
فقال: ذهبت مني الدنيا والآخرة.
ويقال: إنه أنشد لما أحيط به وأيس من الحياة:
فما فرحت نفسي بدنيا أصبتها * ولكن إلى الرب الكريم أصير
فمات يوم الأحد لخمس بقين من ربيع الآخر من هذه السنة، وقت صلاة العصر، عن خمس وعشرين سنة، قيل: وستة أشهر.
ولا خلاف أنه إنما مكث بالخلافة ستة أشهر لا أزيد منها.
وذكر ابن جرير عن بعض أصحابه: أنه لم يزل يسمع الناس يقولون - العامة وغيرهم حين ولي المنتصر -: إنه لا يمكث في الخلافة سوى ستة أشهر، وذلك مدة خلافة من قتل أباه لأجلها، كما مكث شيرويه بن كسرى حين قتل أباه لأجل الملك.
وكذلك وقع، وقد كان المنتصر أعين أقنى قصيرا مهيبا جيد البدن، وهو أول خليفة من بنى العباس أبرز قبره بإشارة أمه حبشية الرومية.
ومن جيد كلامه قوله: والله ما عز ذو باطل قط، ولو طلع القمر من جبينه، ولا ذل ذو حق قط ولو أصفق العالم عليه.
(بحمد الله تعالى قد تم طبع الجزء العاشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الحادي عشر، وأوله خلافة أحمد المستعين بالله. والله نسأل المعونة والتوفيق.)