→ ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة | البداية والنهاية – الجزء العاشر ترجمة المنصور ابن كثير |
أولاد المنصور ← |
هو: عبد الله بن محمد بن علي بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، أبو جعفر المنصور، وكان أكبر من أخيه أبي العباس السفاح، وأمه أم ولد اسمها:، سلامة.
وروى عن جده، عن ابن عباس: «أن رسول الله ﷺكان يتختم في يمينه».
أورده ابن عساكر، من طريق محمد بن إبراهيم السلمي، عن المأمون، عن الرشيد، عن المهدي، عن أبيه المنصور، به.
بويع له بالخلافة بعد أخيه في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وعمره يومئذ إحدى وأربعون سنة، لأنه ولد في سنة خمس وتسعين على المشهور في صفر منها، بالحميمة من بلاد البلقاء، وكانت خلافته ثنتين وعشرين سنة إلا أياما.
وكان أسمر اللون، موفور اللمة، خفيف اللحية، رحب الجبهة، أقنى الأنف، أعين كأن عينيه لسانان ناطقان، يخالطه أبهة الملك، وتقبله القلوب، وتتبعه العيون، يعرف الشرف في مواضعه، والعنف في صورته، والليث في مشيته، هكذا وصفه بعض من رآه.
وقد صح عن ابن عباس أنه قال: منَّا السفاح والمنصور.
وفي رواية: حتى نسلمها إلى عيسى بن مريم.
وقد روي مرفوعا، ولا يصح، ولا وقفه أيضا.
وذكر الخطيب أن أمه سلامة قالت: رأيت حين حملت به كأنه خرج مني أسد فزأر واقفا على يديه، فما بقي أسد حتى جاء فسجد له.
وقد رأى المنصور في صغره مناما غريبا كان يقول: ينبغي أن يكتب في ألواح الذهب، ويعلق في أعناق الصبيان.
قال: رأيت كأني في المسجد الحرام وإذا رسول الله ﷺفي الكعبة والناس مجتمعون حولها، فخرج من عنده مناد: أين عبد الله؟
فقام أخي السفاح يتخطى الرجال حتى جاء باب الكعبة فأخذ بيده فأدخله إياها، فما لبث أن خرج ومعه لواء أسود.
ثم نودي: أين عبد الله؟
فقمت أنا وعمي عبد الله بن علي نستبق، فسبقته إلى باب الكعبة فدخلتها، فإذا رسول الله ﷺوأبو بكر وعمر وبلال، فعقد لي لواء وأوصاني بأمته وعممني عمامة كورها ثلاثة وعشرون كورا، وقال: «خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة».
وقد اتفق سجن المنصور في أيام بني أمية فاجتمع به نوبخت المنجم وتوسم فيه الرياسة فقال له: ممن تكون؟
فقال: من بني العباس.
فلما عرف منه نسبه وكنيته قال: أنت الخليفة الذي تلي الأرض.
فقال له: ويحك ! ماذا تقول؟
فقال: هو ما أقول لك، فضع لي خطك في هذه الرقعة أن تعطيني شيئا إذا وليت.
فكتب له، فلما ولي أكرمه المنصور وأعطاه وأسلم نوبخت على يديه، وكان قبل ذلك مجوسيا، ثم كان من أخص أصحاب المنصور.
وقد حج المنصور بالناس سنة: أربعين ومائة وأحرم من الحيرة، وفي سنة أربع وأربعين، وفي سنة سبع وأربعين، وفي سنة ثنتين وخمسين، ثم في هذه السنة التي مات فيها.
وبنى بغداد والرصافة والرافقة وقصره الخلد.
قال الربيع بن يونس الحاجب: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.
والملوك أربعة: معاوية، وعبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد الملك، وأنا.
وقال مالك: قال لي المنصور: من أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ؟
فقلت: أبو بكر، وعمر.
فقال: أصبت وذلك رأي أمير المؤمنين.
وعن إسماعيل البهري، قال: سمعت المنصور على منبر عرفة يوم عرفة، يقول: أيها الناس ! إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلا فإن شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليه قفلني.
فارغبوا إلى الله أيها الناس ! وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهبكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينا } [المائدة: 3] .
أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، فإنه سميع مجيب.
وقد خطب يوما فاعترضه رجل وهو يثني على الله عز وجل، فقال: يا أمير المؤمنين ! اذكر من أنت ذاكره، واتق الله فيما تأتيه وتذره.
فسكت المنصور حتى انتهى كلام الرجل، فقال: أعوذ بالله أن أكون ممن قال الله عز وجل فيه: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } [البقرة: 206] أو أن أكون جبارا عصيا.
أيها الناس ! إن الموعظة علينا نزلت ومن عندنا نبتت، ثم قال للرجل: ما أظنك في مقالتك هذه تريد وجه الله، وإنما أردت أن يقال عنك وعظ أمير المؤمنين.
أيها الناس ! لا يغرنكم هذا فتفعلوا كفعله.
ثم أمر به فاحتفظ به وعاد إلى خطبته فأكملها، ثم قال لمن هو عنده: أعرض عليه الدنيا فإن قبلها فأعلمني، وإن ردها فأعلمني، فما زال به الرجل الذي هو عنده حتى أخذ المال ومال إلى الدنيا فولاه الحسبة والمظالم وأدخله على الخليفة في بزة حسنة، وثياب وشارة وهيئة دنيوية، فقال له الخليفة: ويحك ! لو كنت محقا مريدا وجه الله بما قلت على رؤوس الناس لما قبلت شيئا مما أرى، ولكن أردت أن يقال عنك: إنك وعظت أمير المؤمنين، وخرجت عليه، ثم أمر به فضربت عنقه.
وقد قال المنصور لابنه المهدي: إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.
وقال أيضا: يا بني ! استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتأليف، والنصر بالتواضع والرحمة للناس، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله.
وحضر عنده مبارك بن فضيلة يوما وقد أمر برجل أن يضرب عنقه وأحضر النطع والسيف، فقال له مبارك: سمعت الحسين، يقول: قال رسول الله ﷺ: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم من كان أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا». فأمر بالعفو عن ذلك الرجل.
ثم أخذ يعدد على جلسائه عظيم جرائم ذلك الرجل وما صنعه.
وقال الأصمعي: أتى المنصور برجل ليعاقبه فقال: يا أمير المؤمنين ! الانتقام عدل والعفو فضل، وتعوذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين، وأدنى القسمين، دون أرفع الدرجتين.
قال: فعفا عنه.
وقال الأصمعي: قال المنصور لرجل من أهل الشام: احمد الله يا أعرابي ! الذي دفع عنكم الطاعون بولايتنا.
فقال: إن الله لا يجمع علينا حشفا وسوء كيل: ولايتكم والطاعون.
والحكايات في ذكر حلمه وعفوه كثيرة جدا.
ودخل بعض الزهاد إلى المنصور فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده.
قال: فأفحم المنصور قوله وأمر له بمال فقال: لو احتجت إلى مالك لما وعظتك.
ودخل عمرو بن عبيد القدري على المنصور فأكرمه وعظمه وقربه وسأله عن أهله وعياله، ثم قال له: عظني.
فقرأ عليه سورة الفجر إلى: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [الفجر: 14] .
فبكى المنصور بكاءً شديدا حتى كأنه لم يسمع بهذه الآيات قبل ذلك، ثم قال له: زدني.
فقال: إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها، وإن هذا الأمر كان لمن قبلك ثم صار إليك هو صائر لمن بعدك، واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامة.
فبكى المنصور أشد من بكائه الأول حتى اختلفت أجفانه، فقال له سليمان بن مجالد: رفقا بأمير المؤمنين.
فقال عمرو: وماذا على أمير المؤمنين أن يبكي من خشية الله عز وجل.
ثم أمر له المنصور بعشرة آلاف درهم، فقال: لا حاجة لي فيها.
فقال المنصور: والله لتأخذنها.
فقال: والله لا آخذنها.
فقال له المهدي وهو جالس في سواده وسيفه إلى جانب أبيه: أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟
فالتفت إلى المنصور فقال: ومن هذا؟
فقال: هذا ابني محمد ولي العهد من بعدي.
فقال عمرو: إنك سميته اسما لم يستحقه لعمله، وألبسته لبوسا ما هو لبوس الأبرار، ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه.
ثم التفت إلى المهدي فقال: يا ابن أخي ! إذا حلف أبوك وحلف عمك فلأن يحنث أبوك أيسر من أن يحنث عمك، لأن أباك أقدر على الكفارة من عمك.
ثم قال المنصور: يا أبا عثمان ! هل من حاجة؟
قال: نعم !
قال: وما هي؟
قال: لا تبعث إلي حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك.
فقال المنصور: إذا والله لا نلتقي.
فقال عمرو: عن حاجتي سألتني. فودعه وأنصرف.
فلما ولى أمده بصره وهو يقول:
كلكم يمشي رويد * كلكم يطلب صيد
غير عمر بن عبيد *
ويقال: إن عمرو بن عبيد أنشد المنصور قصيدة في موعظة إياه وهي قوله:
يا أيها الذي قد غره الأمل * ودون ما يأمل التنغيص والأجل
ألا ترى إنما الدنيا وزينتها * كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا
حتوفها رصد وعيشها نكد * وصفوها كدر وملكها دول
تظل تقرع بالروعات ساكنها * فما يسوغ له لين ولا جذل
كأنه للمنايا والردى غرض * تظل فيه بنات الدهر تنتقل
تديره ما تدور به دوائرها * منها المصيب ومنها المخطئ الزلل
والنفس هاربة والموت يطلبها * وكل عسرة رجل عندها جلل
والمرء يسعى بما يسعى لوارثه * والقبر وارث ما يسعى له الرجل
وقال ابن دريد: عن الرياشي، عن محمد بن سلام، قال: رأت جارية للمنصور ثوبه مرقوعا فقالت: خليفة وقميص مرقوع؟
فقال: ويحك ! أما سمعت ما قال ابن هرمة:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه * خلق وبعض قميصه مرقوع
وقال بعض الزهاد للمنصور: اذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة مثلها، واذكر ليلة تمخض عن يوم القيامة لا ليلة بعدها.
فأفحم المنصور قوله فأمر له بمال.
فقال: لو احتجت إلى مالك ما وعظتك.
ومن شعره لما عزم على قتل أبي مسلم:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة * فإن فساد الرأي أن يترددا
ولا تمهل الأعداء يوما لغدرة * وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
ولما قتله ورآه طريحا بين يديه قال:
قد اكتنفتك خلات ثلاث * جلبن عليك محتوم الحمام
خلافك وامتناعك من يميني * وقودك للجماهير العظام
ومن شعره أيضا:
المرء يأمل أن يعيـ * ـش وطول عمر قد يضره
تبلى بشاشته ويبـ * ـقى بعد حلو العيش مره
وتخونه الأيام حتى * لا يرى شيئا يسره
كم شامت بي إن هلكـ * ـت وقائل لله دره
قالوا: وكان لمنصور في أول النهار يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولايات والعزل والنظر في مصالح العامة، فإذا صلى الظهر دخل منزله واستراح إلى العصر، فإذا صلاها جلس لأهل بيته ونظر في مصالحهم الخاصة، فإذا صلى العشاء نظر في الكتب والرسائل الواردة من الآفاق، وجلس عنده من يسامره إلى ثلث الليل، ثم يقوم إلى أهله فينام في فراشه إلى الثلث الآخر، فيقوم إلى وضوئه وصلاته حتى يتفجر الصباح، ثم يخرج فيصلى بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه.
وقد ولى بعض العمال على بلد فبلغه أنه قد تصدى للصيد وأعد لذلك كلابا وبزاة، فكتب إليه: ثكلتك أمك وعشيرتك، ويحك ! إنا إنما استكفيناك واستعملناك على أمور المسلمين ولم نستكفيك أمور الوحوش في البراري، فسلم ما تلي من عملنا إلى فلان والحق بأهلك ملوما مدحورا.
وأتي يوما بخارجي قد هزم جيوش المنصور غير مرة فلما وقف بين يديه قال له المنصور: ويحك يا ابن الفاعلة ! مثلك يهزم الجيوش؟
فقال الخارجي: ويلك سوأة لك بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسب، وما يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة فما استقبلها أبدا.
قال: فاستحيى منه المنصور وأطلقه. فما رأى له وجها إلى الحول.
وقال لابنه لما ولاه العهد: يا بني ! ائتدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والنصر بالتواضع، والتألف بالطاعة، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله.
وقال أيضا: يا بني ! ليس العاقل من يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكن العاقل الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه.
وقال المنصور: يا بني ! لا تجلس مجلسا إلا وعندك من أهل الحديث من يحدثك، فإن الزهري قال: علم الحديث ذكر لا يحبه إلا ذكران الرجال، ولا يكرهه إلا مؤنثوهم، وصدق أخو زهرة.
وقد كان المنصور في شبيبته يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه فنال جانبا جيدا وطرفا صالحا.
وقد قيل له يوما: يا أمير المؤمنين ! هل بقي شيء من اللذات لم تنله؟
قال: شيء واحد.
قالوا: وما هو؟
قال: قول المحدث للشيخ من ذكرت رحمك الله.
فاجتمع وزراؤه وكتَّابه وجلسوا حوله وقالوا: ليمل علينا أمير المؤمنين شيئا من الحديث.
فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق وقطاع المسافات، تارة بالعراق وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن. فهؤلاء نقلة الحديث.
وقال يوم لابنه المهدي: كم عندك من دابة؟
فقال: لا أدري.
فقال: هذا هو التقصير، فأنت لأمر الخلافة أشد تضييعا فاتق الله يا بني.
وقالت خالصة إحدى حظيات المهدي: دخلت يوما على المنصور وهو يشتكي ضرسه ويداه على صدغيه فقال لي: كم عندك من المال يا خالصة؟
فقلت: ألف درهم.
فقال: ضعي يدك على رأسي واحلفي.
فقلت: عندي عشرة آلاف دينار.
قال: اذهبي فاحمليها إلي.
قالت: فذهبت حتى دخلت على سيدي المهدي وهو مع وزوجته الخيزران فشكوت ذلك إليه فوكزني برجله وقال: ويحك ! إنه ليس له وجع، ولكني سألته بالأمس مالا فتمارض، وإنه لا يسعك إلا ما أمرك به.
فذهبت إليه خالصة ومعها عشرة آلاف دينار، فاستدعى بالمهدي فقال له: تشكو الحاجة وهذا كله عند خالصة؟
وقال المنصور لخازنه: إذا علمت بمجيء المهدي فأتني بخلقان الثياب قبل أن يجيء، فجاء بها فوضعها بين يديه ودخل المهدي والمنصور يقلبها، المهدي يضحك، فقال: يا بني ! من ليس له خلق ليس له جديد، وقد حضر الشتاء فنحتاج نعين العيال والولد.
فقال المهدي: عليَّ كسوة أمير المؤمنين وعياله.
فقال: دونك فافعل.
وذكر ابن جرير، عن الهيثم: أن المنصور أطلق في يوم واحد لبعض أعمامه ألف ألف درهم.
وفي هذا اليوم فرق في بيته عشرة آلاف درهم، ولا يعلم خليفة فرق مثل هذا في يوم واحد.
وقرأ بعض القراء عند المنصور: { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } [النساء: 37] .
فقال: والله لولا أن المال حصن للسلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما ما بت ليلة واحدة وأنا أحرز منه دينارا ولا درهما لما أجد لبذل المال من اللذة، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة.
وقرأ عنده قارئ آخر: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } الآية [الإسراء: 29] .
فقال: ما أحسن ما أدبنا ربنا عز وجل.
وقال المنصور: سمعت علي بن عبد الله يقول: سادة أهل الدنيا في الدنيا الأسخياء، وسادة أهل الآخرة في الآخرة الأتقياء.
ولما عزم المنصور على الحج في هذه السنة دعا ولده المهدي فأوصاه في خاصة نفسه وبأهل بيته وبسائر المسلمين خيرا، وعلمه كيف تفعل الأشياء وتسد الثغور، وأوصاه بوصايا يطول بسطها وحرج عليه أن لا يفتح شيئا من خزائن المسلمين حتى يتحقق وفاته فإن بها من الأموال ما يكفي المسلمين لو لم يجب إليهم من الخوارج درهم عشر سنين، وعهد إليه أن يقضي ما عليه من الدين وهو ثلاثمائة ألف دينار، فإنه لم ير قضاءها من بيت المال. فامتثل المهدي ذلك كله.
وأحرم المنصور بحج وعمرة من الرصافة وساق بدنه وقال: يا بني ! إني ولدت في ذي الحجة وقد وقع لي أن أموت في ذي الحجة، وهذا الذي جرأني على الحج عامي هذا.
وودعه وسار واعتراه مرض الموت في أثناء الطريق فما دخل مكة إلا وهو ثقيل جدا، فلما كان بآخر منزل نزله دون مكة إذا في صدر منزله مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم.
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت * سنوك وأمر الله لابد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم * لك اليوم من كرب المنية مانع
فدعا بالحجبة فأقرأهم ذلك فلم يروا شيئا فعرف أن أجله قد نعي إليه.
قالوا: ورأى المنصور في منامه ويقال: بل هتف به هاتف وهو يقول:
أما ورب السكون والحرك * إن المنايا كثيرة الشرك
عليك يا نفس إن أسأت وإن * أحسنت يا نفس كان ذاك لك
ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك
إلا بنقل السلطان عن ملك * إذا انقضى ملكه إلى ملك
حتى يصيرانه إلى ملك * ما عز سلطانه بمشترك
ذاك بديع السماء والأرض والمر * سي لجبال المسخر الفلك
فقال المنصور: هذا أوان حضور أجلي وانقضاء عمري.
وكان قد رأى قبل ذلك في قصره الخلد الذي بناه وتأنق فيه مناما أفزعه فقال للربيع: ويحك يا ربيع ! لقد رأيت مناما هالني، رأيت قائلا وقف في باب هذا القصر وهو يقول:
كأني بهذا القصر قد باد أهله * وأوحش منه أهله ومنازله
وصار رئيس القصر من بعد بهجة * إلى جدث يبني عليه جنادله
فما أقام في الخلد إلا أقل من سنة حتى مرض في طريق الحج، ودخل مكة مدنفا ثقيلا.
وكانت وفاته ليلة السبت لست، وقيل: لسبع مضين من ذي الحجة، وكان آخر ما تكلم به أن قال: اللهم بارك لي في لقائك.
وقيل: إنه قال: يا رب إن كنت عصيتك في أمور كثيرة فقد أطعتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله مخلصا. ثم مات.
وكان نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله وبه يؤمن.
وكان عمره يوم وفاته ثلاثا وستين سنة على المشهور، منها ثنتان وعشرون سنة خليفة، ودفن بباب المعلاة رحمه الله.
قال ابن جرير: ومما رثي به قول سلم الخاسر الشاعر:
عجبا للذي نعى الناعيان * كيف فاهت بموته الشفتان
ملك أن عدا على الدهر يوما * أصبح الدهر ساقطا للجران
ليت كفا حثت عليه ترابا * لم تعد في يمنيها ببنان
حين دانت له البلاد على العسـ* ـف وأغضى من خوفه الثقلان
أين رب الزوراء قد قلدته الـ * ـملك عشرين حجة واثنتان
إنما المرء كالزناد إذا ما * أخذته قوادح النيران
ليس يثني هواه زجر ولا يقـ * ـدح في حبله ذوو الأذهان
قلدته أعنة الملك حتى * قاد أعداءه بغير عنان
يكسر الطرف دونه وترى الأ يـ * ـدي من خوفه على الأذقان
ضم أطراف ملكه ثم أضحى * خلف أقصاهم ودون الداني
هاشمي التشمير لا يحمل الثقـ * ـل على غارب الشرود الهدان
ذو أناة ينسى لها الخائف الخو * ف وعزم يلوي بكل جنان
ذهبت دونه النفوس حذارا * غير أن الأرواح في الأبدان
وقد دفن عند باب المعلاة بمكة ولا يعرف قبره لأنه أعمي قبره، فإن الربيع الحاجب حفر مائة قبر ودفنه في غيرها لئلا يعرف.