→ دعبل بن علي | البداية والنهاية – الجزء العاشر أحمد بن أبي الحواري ابن كثير |
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين ← |
واسمه: عبد الله بن ميمون بن عياش بن الحارث، أبو الحسن، التغلبي الغطفاني، أحد العلماء الزهاد المشهورين، والعباد المذكورين، والأبرار المشكورين، ذوي الأحوال الصالحة، والكرامات الواضحة، أصله من الكوفة، وسكن دمشق وتخرج بأبي سليمان الداراني رحمهما الله.
وروى الحديث عن: سفيان بن عيينة، ووكيع، وأبي أسامة، وخلق.
وعنه: أبو داود، وابن ماجه، وأبو حاتم، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو زرعة الرازي، وخلق كثير.
وقد ذكره أبو حاتم فأثنى عليه.
وقال يحيى بن معين: إني لأظن أن الله يسقي أهل الشام به.
وكان الجنيد بن محمد يقول: هو ريحانة الشام.
وروى ابن عساكر أنه كان قد عاهد أبا سليمان الدارني ألا يغضبه ولا يخالفه، فجاءه يوما وهو يحدث الناس فقال: يا سيدي ! هذا قد سجروا التنور فماذا تأمر؟
فلم يرد عليه أبو سليمان لشغله بالناس، ثم أعادها أحمد ثانية، وقال له في الثالثة: اذهب فاقعد فيه، ثم اشتغل أبو سليمان في حديث الناس ثم استفاق فقال لمن حضره: إني قلت لأحمد اذهب فاقعد في التنور، وإني أحسب أن يكون قد فعل ذلك فقوموا بنا إليه، فذهبوا فوجدوه جالسا في التنور، ولم يحترق منه شيء ولا شعرة واحدة.
وروي أيضا أن أحمد بن أبي الحواري أصبح ذات يوم وقد ولد له ولد ولا يملك شيئا يصلح به الولد، فقال لخادمه: اذهب فاستدن لنا وزنة من دقيق، فبينما هو في ذلك إذ جاءه رجل بمائتي درهم فوضعها بين يديه، فدخل عليه رجل في تلك الساعة فقال: يا أحمد ! إنه قد ولد لي الليلة ولد ولا أملك شيئا فرفع طرفه إلى السماء وقال: يا مولاي هكذا بالعجلة.
ثم قال للرجل: خذ هذه الدراهم فأعطاه إياها كلها، ولم يبق منها شيئا، واستدان لأهله دقيقا.
وروى عنه خادمه أنه خرج للثغر لأجل الرباط، فما زالت الهدايا تفد إليه من بركة النهار إلى الزوال، ثم فرقها كلها إلى وقت الغروب، ثم قال لي: كن هكذا لا ترد على الله شيئا، ولا تدَّخر عنه شيئا.
ولما جاءت المحنة في زمن المأمون إلى دمشق بخلق القرآن عيَّن فيها أحمد بن أبي الحواري، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن ذكوان، فكلهم أجابوا إلا ابن أبي الحواري فحبس بدار الحجارة، ثم هدد فأجاب تورية مكرها، ثم أطلق رحمه الله.
وقد قام ليلة بالثغر يكرر هذه الآية: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] حتى أصبح وقد ألقى كتبه في البحر وقال: نعم الدليل كنت لي على الله وإليه، ولكن الاشتغال بالدليل بعد معرفة المدلول عليه والوصول إليه محال.
ومن كلامه: لا دليل على الله سواه، وإنما يطلب العلم لآداب الخدمة.
وقال: من عرف الدنيا زهد فيها، ومن عرف الآخرة رغب فيها، ومن عرف الله آثر رضاه.
وقال: من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب لها أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه.
وقال: قلت لأبي سليمان في ابتداء أمري: أوصني.
فقال: أتستوص أنت؟
فقلت: نعم ! إن شاء الله تعالى.
فقال: خالف نفسك في كل مراداتها فإنها الأمارة بالسوء، وإياك أن تحقر إخوانك المسلمين، واجعل طاعة الله دثارا، والخوف منه شعارا، والإخلاص له زادا، والصدق حسنة، واقبل مني هذه الكلمة الواحدة ولا تفارقها ولا تغفل عنها: من استحيى من الله في كل أوقاته وأحواله وأفعاله، بلَّغه الله إلى مقام الأولياء من عباده.
قال: فجعلت هذه الكلمات أمامي في كل وقت أذكرها وأطالب نفسي بها.
والصحيح: أنه توفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاثين ومائتين، وقيل: غير ذلك، فالله أعلم.