→ فصل | البداية والنهاية – الجزء الخامس قصة مسجد الضرار ابن كثير |
ذكر أقوام تخلفوا من العصاة غير هؤلاء ← |
قال الله تعالى: { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم * والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين * أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم }. [التوبة: 106 - 110] .
وقد تكلمنا على تفسير ما يتعلق بهذه الآيات الكريمة في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد.
وذكر ابن إسحاق كيفية بناء هذا المسجد الظالم أهله، وكيفية أمر رسول الله ﷺ بخرابه مرجعه من تبوك قبل دخوله المدينة، ومضمون ذلك أن طائفة من المنافقين بنوا صورة مسجد قريبا من مسجد قباء، وأرادوا أن يصلي لهم رسول الله ﷺ فيه حتى يروج لهم ما أرادوه من الفساد، والكفر والعناد، فعصم الله رسوله ﷺ من الصلاة فيه، وذلك أنه كان على جناح سفر إلى تبوك.
فلما رجع منها فنزل بذي أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة - نزل عليه الوحي في شأن هذا المسجد، وهو قوله تعالى: { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل } الآية.
أما قوله: { ضرارا } فلأنهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء.
{ وكفرا } بالله لا للإيمان به.
{ وتفريقا } للجماعة عن مسجد قباء.
{ وإرصادا } لمن حارب الله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الفاسق قبحه الله، وذلك أنه لما دعاه رسول الله ﷺ إلى الإسلام، فأبى عليه؛ ذهب إلى مكة فاستنفرهم، فجاؤا عام أحد فكان من أمرهم ما قدمناه، فلما لم ينهض أمره ذهب إلى ملك الروم قيصر ليستنصره على رسول الله ﷺ وكان أبو عامر على دين هرقل ممن تنصر معهم من العرب، وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين، فبنوا هذا المسجد في الصورة الظاهرة، وباطنه دار حرب ومقر لمن يفد من عند أبي عامر الراهب، ومجمع لمن هو على طريقتهم من المنافقين.
ولهذا قال تعالى: { وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل }.
ثم قال: { وليحلفن } أي: الذين بنوه.
{ إن أردنا إلا الحسنى } أي: غنما أردنا ببنائه الخير.
قال الله تعالى: { والله يشهد إنهم لكاذبون }.
ثم قال الله تعالى إلى رسوله: { لا تقم فيه أبدا }.
فنهاه عن القيام فيه لئلا يقرر أمره، ثم أمره وحثه على القيام في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، وهو مسجد قباء لما دل عليه السياق، والأحاديث الواردة في الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه.
وما ثبت في صحيح مسلم من أنه مسجد رسول الله ﷺ لا ينافي ما تقدم لأنه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد الرسول أولى بذلك، وأحرى وأثبت في الفضل منه وأقوى.
وقد أشبعنا القول في ذلك في التفسير ولله الحمد.
والمقصود أن رسول الله ﷺ لما نزل بذي أوان، دعا مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي - أو أخاه عاصم بن عدي رضي الله عنهما فأمرهما أن يذهبا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فيحرقاه بالنار، فذهبا فحرقاه بالنار، وتفرق عنه أهله.
قال ابن إسحاق: وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: وهم خذام بن خالد - وفي جنب داره - كان بناء هذا المسجد - وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة ابن الأزعر، وعباد بن حنيف - أخو سهل بن حنيف -، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبخرج - وهو إلى بني ضبيعة -، وبجاد بن عثمان - وهو من بني ضبيعة -، ووديعة بن ثابت - وهو إلى بني أمية -.
قلت: وفي غزوة تبوك هذه صلى رسول الله ﷺ خلف عبد الرحمن بن عوف صلاة الفجر أدرك معه الركعة الثانية منها، وذلك أن رسول الله ﷺ ذهب يتوضأ، ومعه المغيرة بن شعبة فأبطأ على الناس، فأقيمت الصلاة، فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فلما سلم الناس أعظموا ما وقع.
فقال لهم رسول الله ﷺ: «أحسنتم وأصبتم».
وذلك فيما رواه البخاري رحمه الله قائلا: حدثنا.
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة.
فقال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم».
فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟
قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر».
تفرد به من هذا الوجه.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثني عمرو بن يحيى عن العباس بن سهل بن سعد، عن أبي حميد، قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ من غزوة تبوك حتى إذا أشرفنا على المدينة.
قال: «هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه».
ورواه مسلم من حديث سليمان بن بلال به نحوه.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى رسول الله ﷺ إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك.
ورواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو ابن مطر، سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع
قال البيهقي: وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمة المدينة من مكة، لا إنه لما قدم المدينة من ثنيات الوداع، عند مقدمة من تبوك، والله أعلم.
فذكرناه ها هنا أيضا.
قال البخاري رحمه الله حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال:
سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك.
قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله ﷺ يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله ﷺ ليلة العقبة حتى تواثبنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حر شديد، واستقبل سفر بعيدا وعددا وعدادا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله ﷺ كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان -.
قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن يستخفي له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله ﷺ تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله ﷺ والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا.
فأقول في نفسي: أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا.
فقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن ارتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله ﷺ حتى بلغ تبوك.
فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟».
فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه براده ونظره في عطفيه.
فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا.
فسكت رسول الله ﷺ.
قال كعب بن مالك قال: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول بماذا أخرج غدا من سخطه، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي.
فلما قيل إن رسول الله ﷺ قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء من كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله ﷺ قادما، فكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله ﷺ علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل، فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب.
ثم قال: «تعال».
فجئت أمشي حتى جلست بين يديه.
فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك».
فقلت: بلى وإني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر - ولقد أعطيت جدلا - ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
فقال رسول الله ﷺ: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك».
فقمت، فثار رجال من بني سلمة فاتبعوني.
فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله ﷺ بما اعتذر إليه المخلفون، وقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله ﷺ لك فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى ههمت أن أرجع فأكذب نفسي.
ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟
قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك.
فقلت: من هما؟
قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي.
فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما.
ونهى رسول الله ﷺ المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف.
فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله ﷺ فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا، ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام.
فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟
فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته.
فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
قال: وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟
فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان في سرقة من حرير.
فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك.
فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور، فسجرته بها، فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله ﷺ يأتيني.
فقال: رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك.
فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟
قال: لا بل اعتزلها، ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك.
فقلت لامرأتي: إلحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله.
فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟
قال: «لا ولكن لا يقربك».
قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.
فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك، كما استأذن هلال ابن أمية أن تخدمه.
فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب.
قال: فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب أبشر، فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله للناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يباشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله ﷺ فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة.
يقولون: ليهنك توبة الله عليك.
قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله ﷺ جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله ﷺ.
قال رسول الله ﷺ وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك».
قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟
قال: «لا بل من عند الله».
وكان رسول الله ﷺ إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.
فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله.
قال رسول الله ﷺ: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».
قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.
وقلت: يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أتحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين - أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني، ما شهدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله ﷺ إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله ﷺ: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار }، إلى قوله: { وكونوا مع الصادقين }. [التوبة: 117 - 119] .
فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ﷺ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا.
فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد.
قال الله تعالى: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم }.
إلى قوله: { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين }. [التوبة: 95 - 96] .
قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله، حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه.
فبذلك قال الله تعالى: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا }.
ليس الذي ذكر الله مما خلفنا من الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منهم.
وهذا رواه مسلم من طريق الزهري بنحوه.
وهكذا رواه محمد بن إسحاق عن الزهري مثل سياق البخاري.
وقد سقناه في التفسير من مسند الإمام أحمد، وفيه زيادات يسيرة، ولله الحمد والمنة.