→ فصل خطبته صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة | البداية والنهاية – الجزء الخامس سنة إحدى عشرة من الهجرة ابن كثير |
فصل في الآيات والأحاديث المنذرة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ← |
استهلت هذه السنة وقد استقر الركاب الشريف النبوي بالمدينة النبوية المطهرة مرجعه من حجة الوداع، وقد وقعت في هذه السنة أمور عظام من أعظمها خطبا وفاة رسول الله ﷺ ولكنه عليه السلام نقله الله عز وجل من هذه الدار الفانية إلى النعيم الأبدي في محلة عالية رفيعة، ودرجة في الجنة لا أعلى منها ولا أسنى كما قال تعالى: «وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى) وذلك بعد ما أكمل أداء الرسالة التي أمره الله تعالى بإبلاغها، ونصح أمته، ودلهم على خير ما سيعلمه لهم، وحذرهم ونهاهم عما فيه مضرة عليهم في دنياهم وأخراهم، وقد قدمنا ما رواه صاحبا الصحيح من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: نزل قوله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» يوم الجمعة ورسول الله ﷺ واقف بعرفة.
وروينا من طريق جيد أن عمر بن الخطاب حين نزلت هذه الآية بكى، فقيل: ما يبكيك؟
فقال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان، وكأنه استشعر وفاة النبي ﷺ.
وقد أشار عليه السلام إلى ذلك فيما رواه مسلم من حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله ﷺ وقف عند جمرة العقبة وقال لنا: «خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا» وقدمنا ما رواه الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة الربذي، عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر قال: نزلت هذه السورة { إذا جاء نصر الله والفتح } في أوسط أيام التشريق، فعرف رسول الله ﷺ أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت، ثم ذكر خطبته في ذلك اليوم كما تقدم.
وهكذا قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لعمر بن الخطاب حين سأله عن تفسير هذه السورة بمحضر كثير من الصحابة ليريهم فضل ابن عباس وتقدمه وعلمه، حين لامه بعضهم على تقديمه وإجلاسه له مع مشايخ بدر، فقال: «إنه من حيث تعلمون»
ثم سألهم وابن عباس حاضر عن تفسير هذه السورة { إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا }.
فقالوا: أمرنا إذا فتح لنا أن نذكر الله ونحمده ونستغفره.
فقال: ما تقول يا ابن عباس؟
فقال: هو أجل رسول الله ﷺ نعي إليه.
فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تعلم.
وقد ذكرنا في تفسير هذه السورة ما يدل على قول ابن عباس من وجوه، وإن كان لا ينافي ما فسر به الصحابة رضي الله عنهم.
وكذلك ما رواه الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ لما حج بنسائه قال: «إنما هي هذه الحجة ثم الزمن ظهور الحصر» تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقد رواه أبو داود في سننه من وجه آخر جيد.
والمقصود: أن النفوس استشعرت بوفاته عليه السلام في هذه السنة، ونحن نذكر ذلك ونورد ما روي فيما يتعلق به من الأحاديث والآثار، وبالله المستعان.
ولنقدم على ذلك ما ذكره الأئمة محمد بن إسحاق بن يسار، وأبو جعفر بن جرير، وأبو بكر البيهقي في هذا الموضع قبل الوفاة من تعداد حججه، وغزواته، وسراياه، وكتبه، ورسله إلى الملوك، فلنذكر ذلك ملخصا مختصرا، ثم نتبعه بالوفاة.
ففي الصحيحين من حديث أبي إسحاق السبيعي عن زيد بن أرقم، أن رسول الله ﷺ غزا تسع عشرة غزوة، وحج بعد ما هاجر حجة الوداع، ولم يحج بعدها.
قال أبو إسحاق: وواحدة بمكة، كذا قال أبو إسحاق السبيعي.
وقد قال زيد بن الحباب عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله ﷺ حج ثلاث حجات: حجتين قبل أن يهاجر، وواحدة بعد ما هاجر معها عمرة، وساق ستا وثلاثين بدنة، وجاء علي بتمامها من اليمن.
وقد قدمنا عن غير واحد من الصحابة منهم أنس بن مالك في الصحيحين أنه عليه السلام اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والعمرة التي مع حجة الوداع.
وأما الغزوات: فروى البخاري عن أبي عاصم النبيل، عن يزيد ابن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع رسول الله ﷺ سبع غزوات، ومع زيد بن حارثة تسع غزوات يؤمره علينا رسول الله ﷺ.
وفي الصحيحين عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن زيد بن سلمة قال: غزوت مع رسول الله ﷺ سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، مرة علينا أبو بكر، ومرة على أسامة بن زيد.
وفي صحيح البخاري من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء قال: غزا رسول الله خمس عشرة غزوة.
وفي الصحيحين من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء أن رسول الله ﷺ غزا تسع عشرة غزوة، وشهد معه منها سبع عشرة، أولها: العشير، أو العسير.
وروى مسلم عن أحمد بن حنبل، عن معتمر، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة، عن أبيه أنه غزا مع رسول الله ﷺ ست عشرة غزوة.
وفي رواية لمسلم من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه أنه غزا مع رسول الله ﷺ تسع عشرة غزوة قاتل منها في ثمان.
وفي رواية عنه بهذا الإسناد: وبعث أربعا وعشرين سرية، قاتل يوم بدر، وأحد، والأحزاب، والمريسيع، وخيبر، ومكة، وحنين.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أن رسول الله ﷺ غزا إحدى وعشرين غزوة، غزوت معه منها تسع عشرة غزوة، ولم أشهد بدرا، ولا أحدا منعني أبي، فلما قتل أبي يوم أحد لم أتخلف عن غزاة غزاها.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: غزا رسول الله ﷺ ثمان عشرة غزوة قال: وسمعته مرة يقول: أربعا وعشرين غزوة، فلا أدري أكان ذلك وهما، أو شيئا سمعته بعد ذلك.
وقال قتادة: غزا رسول الله تسع عشرة، قاتل في ثمان منها، وبعث من البعوث أربعا وعشرين، فجميع غزواته وسراياه ثلاث وأربعون.
وقد ذكر عروة بن الزبير، والزهري، وموسى بن عقبة، ومحمد إسحاق بن يسار، وغير واحد من أئمة هذا الشأن أنه عليه السلام قاتل يوم بدر في رمضان من سنة اثنتين، ثم في أحد في شوال سنة ثلاث، ثم الخندق وبني قريظة في شوال أيضا من سنة أربع وقيل: خمس، ثم في بني المصطلق بالمريسيع في شعبان سنة خمس، ثم في خيبر في صفر سنة سبع، ومنهم من يقول: سنة ست، والتحقيق أنه في أول سنة سبع، وآخر سنة ست، ثم قاتل أهل مكة في رمضان سنة ثمان، وقاتل هوازن وحاصر أهل الطائف في شوال وبعض ذي الحجة سنة ثمان، كما تقدم تفصيله، وحج سنة ثمان بالناس عتاب بن أسيد نائب مكة، ثم في سنة تسع أبو بكر الصديق، ثم حج رسول الله ﷺ بالمسلمين سنة عشر.
وقال محمد ابن إسحاق: وكان جميع ما غزا رسول الله ﷺ بنفسه الكريمة سبعا وعشرين غزوة: غزوة ودان، وهي غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط من ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى بطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر العظمى التي قتل الله فيها صناديد قريش، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر، ثم غزوة السويق بطلب أبا سفيان بن حرب، ثم غزوة غطفان - وهي غزوة ذي أمر -، ثم غزوة نجران معدن بالحجاز، ثم غزوة أحد، ثم حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نخل، ثم غزوة بدر الآخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان من هذيل، ثم غزوة ذي قرد، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة القضاء، ثم غزوة الفتح، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك.
قال ابن إسحاق: قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف.
قلت: وقد تقدم ذلك كله مبسوطا في أماكنه بشواهده وأدلته، ولله الحمد.
قال ابن إسحاق: وكانت بعوثه عليه السلام وسراياه ثمانيا وثلاثين من بين بعث وسرية، ثم شرع رحمه الله في ذكر تفصيل ذلك، وقد قدمنا ذلك كله، أو أكثره مفصلا في مواضعه، ولله الحمد والمنة.
ولنذكر ملخص ما ذكره ابن إسحاق: بعث عبيدة بن الحارث إلى أسفل ثنية المرة، ثم بعث حمزة بن عبد المطلب إلى الساحل من ناحية العيص، ومن الناس من يقدم هذا على بعث عبيدة كما تقدم، فالله أعلم، بعث سعد ابن أبي وقاص إلى الخرار، بعث عبد الله بن جحش إلى نخلة، بعث زيد بن حارثة إلى القردة، بعث محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف، بعث مرثد ابن أبي مرتد الغنوي إلى الرجيع، بعث المنذر بن عمرو إلى بئر معونة، بعث أبي عبيدة إلى ذي القصة، بعث عمر بن الخطاب إلى برية في أرض بني عامر، بعث علي إلى اليمن، بعث غالب بن عبد الله الكلبي إلى الكديد فأصاب بني الملوح أغار عليهم في الليل، فقتل طائفة منهم فاستاق نعمهم، فجاء نفرهم في طلب النعم فلما اقتربوا حال بينهم واد من السيل، وأسروا في مسيرهم هذا الحارث بن مالك بن البرصاء، وقد حرر ابن إسحاق هذا هاهنا، وقد تقدم بيانه.
بعث علي ابن أبي طالب إلى أرض فدك، بعث أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم أصيب هو وأصحابه، بعث عكاشة إلى الغمرة، بعث أبي سلمة بن عبد الأسد إلى قطن - وهو: ماء بنجد لبني أسد -، بعث محمد بن مسلمة إلى القرطاء من هوازن، بعث بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك، وبعثه أيضا إلى ناحية حنين، بعث زيد بن حارثة إلى الجموم من أرض بني سليم، بعث زيد بن حارثة إلى جذام من أرض بني خشين.
قال ابن هشام: وهي من أرض حسمى، وكان سببها فيما ذكره ابن إسحاق وغيره: أن دحية بن خليفة لما رجع من عند قيصر وقد أبلغه كتاب رسول الله ﷺ يدعوه إلى الله فأعطاه من عنده تحفا وهدايا، فلما بلغ واديا في أرض بني جذام يقال له: شنار أغار عليه الهنيد بن عوص، وابنه عوص بن الهنيد الضليعيان - والضليع بطن من جذام - فأخذا ما معه، فنفر حي منهم قد أسلموا، فاستنقذوا ما كان أخذ لدحية فردوه عليه، فلما رجع دحية إلى رسول الله ﷺ أخبره الخبر، واستسقاه دم الهنيد، وابنه عوص، فبعث حينئذ زيد بن حارثة في جيش إليهم، فساروا إليهم من ناحية الأولاج، فأغار بالماقض من ناحية الحرة، فجمعوا ما وجدوا من مال وناس، وقتلوا الهنيد وابنه، ورجلين من بني الأحنف، ورجلا من بني خصيب، فلما احتاز زيد أموالهم وذراريهم اجتمع نفر منهم برفاعة بن زيد، وكان قد جاءه كتاب من رسول الله ﷺ يدعوهم إلى الله، فقرأه عليهم رفاعة، فاستجاب له طائفة منهم، ولم يكن زيد بن حارثة يعلم ذلك، فركبوا إلى رسول الله ﷺ إلى المدينة في ثلاثة أيام، فأعطوه الكتاب فأمر بقراءته جهرة على الناس.
ثم قال رسول الله: «كيف أصنع بالقتلى؟» ثلاث مرات.
فقال رجل منهم - يقال له: أبو زيد ابن عمرو -: أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا، ومن قتل فهو تحت قدمي هذه.
فبعث معهم رسول الله ﷺ علي ابن أبي طالب.
فقال علي: إن زيدا لا يطيعني.
فأعطاه رسول الله ﷺ سيفه علامة، فسار معهم على جمل لهم، فلقوا زيدا وجيشه ومعهم الأموال والذراري بفيفاء الفحلتين، فسلمهم علي جميع ما كان أخذ لهم، لم يفقدوا منه شيئا.
بعث زيد بن حارثة أيضا إلى بني فزارة بوادي القرى، فقتل طائفة من أصحابه وارتث هو من بين القتلى، فلما رجع آلى أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزوهم أيضا، فلما استبل من جراحه بعثه رسول الله ﷺ ثانيا في جيش فقتلهم بوادي القرى، وأسر أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وكانت عند مالك بن حذيفة بن بدر، ومعها ابنة لها وعبد الله بن مسعدة، فأمر زيد بن حارثة قيس بن المسحر اليعمري فقتل أم قرفة، واستبقى ابنتها، وكانت من بيت شرف، يضرب بأم قرفة المثل في عزها، وكانت بنتها مع سلمة بن الأكوع، فاستوهبها منه رسول الله ﷺ فأعطاه إياها، فوهبها رسول الله لخاله حزن ابن أبي وهب، فولدت له ابنه عبد الرحمن.
بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر مرتين، أحداهما: التي أصاب فيها اليسير بن رزام، وكان يجمع غطفان لغزو رسول الله ﷺ فبعث رسول الله عبد الله بن رواحة في نفر، منهم عبد الله بن أنيس، فقدموا عليه فلم يزالوا يرغبونه ليقدموه على رسول الله ﷺ فسار معهم، فلما كانوا بالقرقرة على ستة أميال من خيبر ندم اليسير على مسيره، ففطن له عبد الله بن أنيس - وهو يريد السيف - فضربه بالسيف فأطن قدمه، وضربه اليسير بمخرش من شوحط في رأسه فأمة، ومال كل رجل من المسلمين على صاحبه من اليهود فقتله، إلا رجلا واحدا أفلت على قدميه، فلما قدم ابن أنيس تفل في رأسه رسول الله ﷺ فلم يقح جرحه، ولم يؤذه.
قلت: وأظن البعث الآخر إلى خيبر لما بعثه عليه السلام خارصا على نخيل خيبر، والله أعلم.
بعث عبد الله بن عتيك وأصحابه إلى خيبر فقتلوا أبا رافع اليهودي.
بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان بن نبيح فقتله بعرنه.
وقد روى ابن إسحاق قصته هاهنا مطولة، وقد تقدم ذكرها في سنة خمس، والله أعلم.
بعث زيد بن حارثة، وجعفر، وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام، فأصيبوا كما تقدم.
بعث كعب بن عمير إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فأصيبوا جميعا أيضا.
بعث عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر إلى بني العنبر من تميم، فأغار عليهم فأصاب منهم أناسا، ثم ركب وفدهم إلى رسول الله ﷺ في أسراهم فأعتق بعضا، وفدى بعضا.
بعث غالب بن عبد الله أيضا إلى أرض بني مرة، فأصيب بها مرداس بن نهيك حليف لهم من الحرقة من جهينة، قتله أسامة بن زيد، ورجل من الأنصار أدركاه فلما شهرا السلاح قال: لا إله إلا الله، فلما رجعا لامهما رسول الله ﷺ أشد اللوم، فاعتذرا بأنه ما قال ذلك إلا تعوذا من القتل.
فقال لأسامة: «هلا شققت عن قلبه» وجعل يقول لأسامة: «من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة».
قال أسامة: فما زال يكررها حتى لوددت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك، وقد تقدم الحديث بذلك.
بعث عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من أرض بني عذرة يستنفر العرب إلى الشام، وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بلي، فلذلك بعث عمرا يستنفرهم ليكون أنجع فيهم، فلما وصل إلى ماء لهم - يقال له: السلسل - خافهم، فبعث يستمد رسول الله، فبعث رسول الله ﷺ سرية فيهم أبو بكر، وعمر، وعليها أبو عبيدة بن الجراح، فلما انتهوا إليه تأمر عليهم كلهم عمرو وقال: إنما بعثتم مددا لي، فلم يمانعه أبو عبيدة لأنه كان رجلا سهلا لينا هينا عند أمر الدنيا، فسلم له، وانقاد معه، فكان عمرو يصلي بهم كلهم، ولهذا لما رجع قال: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟
قال: «عائشة».
قال: فمن الرجال؟
قال: «أبوها».
بعث عبد الله ابن أبي حدرد إلى بطن أضم، وذلك قبل فتح مكة، وفيها قصة محلم بن جثامة، وقد تقدم مطولا في سنة سبع.
بعث ابن أبي حدرد أيضا إلى الغابة.
بعث عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل.
قال محمد بن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عطاء ابن أبي رباح قال: سمعت رجلا من أهل البصرة يسأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن إرسال العمامة من خلف الرجل إذا اعتم.
قال: فقال عبد الله: أخبرك إن شاء الله عن ذلك، تعلم أني كنت عاشر عشرة رهط من أصحاب النبي ﷺ في مسجده: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وحذيفة ابن اليمان، وأبو سعيد الخدري، وأنا، مع رسول الله ﷺ إذ أقبل فتى من الأنصار فسلم على رسول الله ثم جلس فقال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟
قال: «أحسنهم خلقا».
قال: فأي المؤمنين أكيس؟
قال: «أكثرهم ذكرا للموت، وأحسنهم استعدادا له قبل أن ينزل به، أولئك الأكياس».
ثم سكت الفتى، وأقبل علينا رسول الله ﷺ فقال: «يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلن بكم - وأعوذ بالله أن تدركوهن - أنه لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يغلبوا عليها إلا ظهر فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان، ولم يمنعوا الزكاة من أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، فلولا البهائم ما مطروا، وما نقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم، فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله، ويجبروا فيما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم».
قال: ثم أمر عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية بعثه عليها، فأصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء، فأدناه رسول الله ﷺ ثم نقضها، ثم عممه بها، وأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوا من ذلك.
ثم قال: «هكذا يا ابن عوف فاعتم، فإنه أحسن، وأعرف».
ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه، فحمد الله، وصلى على نفسه ثم قال: «خذه يا بن عوف إغزوا جميعا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، فهذا عهد الله وسيرة نبيكم فيكم».
فأخذ عبد الرحمن بن عوف اللواء.
قال ابن هشام: فخرج إلى دومة الجندل.
بعث أبي عبيدة بن الجراح، وكانوا قريبا من ثلاثمائة راكب إلى سيف البحر، وزودوه عليه السلام جرابا من تمر، و فيها قصة العنبر، وهي الحوت العظيم الذي دسره البحر، وأكلهم كلهم منه قريبا من شهر، حتى سمنوا، وتزودوا منه وشائق - أي شرائح - حتى رجعوا إلى رسول الله ﷺ فأطعموه منه، فأكل منه، كما تقدم بذلك الحديث.
قال ابن هشام: ومما لم يذكر ابن إسحاق من البعوث - يعني: هاهنا - بعث عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان صخر بن حرب بعد مقتل خبيب بن عدي، وأصحابه، فكان من أمره ما قدمناه، وكان مع عمرو بن أمية جبار بن صخر، ولم يتفق لهما قتل أبي سفيان بل قتلا رجلا غيره، وأنزلا خبيبا عن جذعه.
وبعث سالم بن عمير أحد البكائين، إلى أبي عفك أحد بني عمرو بن عوف، وكان قد نجم نفاقه حين قتل رسول الله الحارث بن سويد بن الصامت كما تقدم.
فقال يرثيه ويذم قبحه الله الدخول في الدين:
لقد عشت دهرا وما أن أرى * من الناس دارا ولا مجمعا
أبر عهودا وأوفي لمن * يعاقد فيهم إذا ما دعا
من أولاد قيلة في جمعهم * يهد الجبال ولم يخضعا
فصدعهم راكب جاءهم * حلال حرام لشتى معا
فلو أن بالعز صدقتم * أو الملك تابعتم تبعا
فقال رسول الله ﷺ: «من لي بهذا الخبيث» فانتدب له سالم بن عمير هذا فقتله.
فقالت أمامة المريدية في ذلك:
تكذب دين الله والمرء أحمدا * لعمرو الذي أمناك بئس الذي يمني
حباك حنيف آخر الليل طعنة * أبا عفك خذها على كبر السن
وبعث عمير بن عدي الخطمي لقتل العصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد، كانت تهجو الإسلام وأهله، ولما قتل أبو عفك المذكور أظهرت النفاق وقالت في ذلك:
بأست بني مالك والنبيت * وعوف وباست بني الخزرج
أطعتم أتاوي من غيركم * فلا من مراد ولا مذحج
ترجونه بعد قتل الرؤوس * كما يرتجى ورق المنضج
ألا آنف يبتغي غرة * فيقطع من أمل المرتجي
قال: فأجابها حسان بن ثابت فقال:
بنو وائل وبنو واقف * وخطمة دون بني الخزرج
متى ما دعت سفها ويحها * بعولتها والمنايا تجي
فهزت فتى ماجدا عرقه * كريم المداخل والمخرج
فضرجها من نجيع الدما * وبعيد الهدو فلم يحرج
فقال رسول الله ﷺ حين بلغه ذلك: «ألا آخذ لي من ابنة مروان» فسمع ذلك عمير بن عدي، فلما أمسى من تلك الليلة سرى عليها فقتلها، ثم أصبح فقال: يا رسول الله قتلتها فقال: «نصرت الله ورسوله يا عمير».
قال يا رسول الله: هل علي من شأنها.
قال: لا تنتطح فيها عنزان، فرجع عمير إلى قومه وهم يختلفون في قتلها، وكان له خمسة بنون فقال: أنا قتلتها فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فذلك أول يوم عز الإسلام في بني خطمة، فأسلم منهم بشر كثير لما رأوا من عز الإسلام.
ثم ذكر البعث الذين أسروا ثمامة بن أثال الحنفي، وما كان من أمره في إسلامه، وقد تقدم ذلك في الأحاديث الصحاح، وذكر ابن هشام أنه هو الذي قال فيه رسول الله ﷺ: «المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» لما كان من قلة أكله بعد إسلامه، وأنه لما انفصل عن المدينة دخل مكة معتمرا وهو يلبي، فنهاه أهل مكة عن ذلك فأبى عليهم، وتوعدهم بقطع الميرة عنهم من اليمامة، فلما عاد إلى اليمامة منعهم الميرة حتى كتب إليه رسول الله ﷺ فأعادها إليهم.
وقال بعض بني حنيفة:
ومنا الذي لبى بمكة محرما * برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم
وبعث علقمة بن مجزز المدلجي ليأخذ بثأر أخيه وقاص بن مجزز يوم قتل بذي قرد، فاستأذن رسول الله ليرجع في آثار القوم فأذن له، وأمره على طائفة من الناس، فلما فقلوا أذن لطائفة منهم في التقدم، واستعمل عليهم عبد الله بن حذافة، وكانت فيه دعابة، فاستوقد نارا وأمرهم أن يدخلوها، فلما عزم بعضهم على الدخول قال: إنما كنت أضحك، فلما بلغ النبي ﷺ قال: «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه»، والحديث في هذا ذكره ابن هشام عن الدراوردي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن عمرو ابن الحكم بن ثوبان، عن أبي سعيد الخدري.
وبعث كرز بن جابر لقتل أولئك النفر الذين قدموا المدينة، وكانوا من قيس من بجيلة فاستوخموا المدينة واستوبؤها، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يخرجوا إلى إبله فيشربوا من ألبانها، فلما صحوا قتلوا راعيها، وهو يسار مولى رسول الله ﷺ ذبحوه، وغرزوا الشوك في عينيه واستاقوا اللقاح، فبعث في آثارهم كرز بن جابر في نفر من الصحابة، فجاؤوا بأولئك النفر من بجيلة مرجعه عليه السلام من غزوة ذي قرد، فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وهؤلاء النفر إن كانوا هم المذكورين في حديث أنس المتفق عليه، أن نفرا ثمانية من عكل أو عرينة قدموا المدينة الحديث.
والظاهر أنهم هم فقد تقدم قصتهم مطولة، وإن كانوا غيرهم فها قد أوردنا عيون ما ذكره ابن هشام، والله أعلم.
قال ابن هشام: وغزوة علي ابن أبي طالب اليمن التي غزاها مرتين.
قال أبو عمرو المدني: بعث رسول الله عليا إلى اليمن، وخالدا في جند آخر، وقال: «إن اجتمعتم فالأمير علي ابن أبي طالب».
قال: وقد ذكر ابن إسحاق بعث خالد، ولم يذكره في عدد البعوث والسرايا، فينبغي أن تكون العدة في قوله: تسعا وثلاثين.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله ﷺ أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام، وأمرة أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء، والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون.
قال ابن هشام: وهو آخر بعث بعثه رسول الله ﷺ.
وقال البخاري: حدثنا إسماعيل، ثنا مالك عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ بعث بعثا، وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام النبي ﷺ فقال: «إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده».
ورواه الترمذي من حديث مالك وقال: حديث صحيح حسن.
وقد انتدب كثير من الكبار من المهاجرين الأولين والأنصار في جيشه، فكان من أكبرهم عمر بن الخطاب ومن قال: أن أبا بكر كان فيهم فقد غلط، فإن رسول الله ﷺ اشتد به المرض، وجيش أسامة مخيم بالجرف، وقد أمر النبي ﷺ أبا بكر أن يصلي بالناس، كما سيأتي، فكيف يكون في الجيش وهو إمام المسلمين بإذن الرسول من رب العالمين، ولو فرض أنه كان قد انتدب معهم فقد استثناه الشارع من بينهم بالنص عليه للإمامة في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، ثم لما توفي عليه الصلاة والسلام استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب فأذن له في المقام عند الصديق، ونفذ الصديق جيش أسامة، كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه، إن شاء الله.