→ بعثه عليه السلام خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة | البداية والنهاية – الجزء الخامس فصل ابن كثير |
قصة مسجد الضرار ← |
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله ﷺ بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة.
قال: وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب، والراكبين، والثلاثة بواد يقال له: وادي المشقق.
فقال رسول الله ﷺ: «من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا، حتى نأتيه».
قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه.
فلما أتاه رسول الله ﷺ وقف عليه فلم ير فيه شيئا.
فقال: «من سبقنا إلى هذا الماء؟».
فقيل له: يا رسول الله فلان وفلان.
فقال: «أولم أنههم أن يستقوا منه حتى آتيه» ثم لعنهم، ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به، ومسحه بيده، ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما أن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس، واستقوا حاجتهم منه.
فقال رسول الله ﷺ: «لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي، وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه».
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عبد الله بن مسعود كان يحدث.
قال: قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، فاتبعتها أنظر إليها.
قال: فإذا رسول الله، وأبو بكر، وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وإذا هو يقول: «أدنيا إلي أخاكما» فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه.
قال: «اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه».
قال: يقول ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة.
قال ابن هشام: إنما سمي: ذو البجادين، لأنه كان يريد الإسلام، فمنعه قومه، وضيقوا عليه، حتى خرج من بينهم، وليس عليه إلا بجاد - وهو الكساء الغليظ - فشقه بإثنين فائتزر بواحدة، وارتدى الأخرى، ثم أتى رسول الله ﷺ فسمي ذو البجادين.
قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن ابن أكيمة الليثي، عن ابن أخي أبي رهم الغفاري، أنه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين، وكان من أصحاب الشجرة يقول:
غزوت مع رسول الله ﷺ غزوة تبوك، فسرت ذات ليلة معه، ونحن بالأخضر، وألقى الله علي النعاس، وطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة النبي ﷺ فيفزعني دنوها منه، مخافة أن أصيب رجله في الغرز، فطفقت أحوز راحلتي عنه، حتى غلبتني عيني في بعض الطريق، فزاحمت راحلتي راحلته، ورجله في الغرز، فلم أستيقظ إلا بقوله: «حس».
فقلت: يا رسول الله استغفر لي.
قال: «سر».
فجعل رسول الله ﷺ يسألني عمن تخلف عنه من بني غفار، فأخبره به.
فقال وهو يسألني: «ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط الذين لا شعر في وجوههم؟».
فحدثته بتخلفهم.
قال: «فما فعل النفر السود الجعاد القصار؟».
قال: قلت: والله ما أعرف هؤلاء منا.
قال: «بلى الذين لهم نعم بشبكة شدخ».
فتذكرتهم في بني غفار، فلم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا.
فقلت: يا رسول الله أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا.
فقال رسول الله ﷺ: «ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرءا نشيطا في سبيل الله، إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون والأنصار، وغفار وأسلم».
قال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبيرقال: لما قفل رسول الله ﷺ من تبوك إلى المدينة، هم جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله ﷺ عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون، إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله، وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد أظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله ﷺ فأمرهما، فأسرعا حتى قطعوا العقبة، ووقفوا ينتظرون الناس.
ثم قال رسول الله ﷺ لحذيفة: «هل عرفت هؤلاء القوم؟»
قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم.
ثم قال: «علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟»
قالا: لا، فأخبرهما بما كانوا تمالئوا عليه، وسماهم لهما، واستكتمهما ذلك؟
فقالا: يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم؟
فقال: «أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي ﷺ إنما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده، وهذا هو الأشبه والله أعلم.
ويشهد له قول أبي الدرداء لعلقمة صاحب ابن مسعود: أليس فيكم - يعني أهل الكوفة - صاحب السواد، والوساد - يعني: ابن مسعود - أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره - يعني: حذيفة - أليس فيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان محمد - يعني: عمارا -.
وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لحذيفة: أقسمت عليك بالله أنا منهم؟
قال: لا ولا أبرئ بعدك أحدا يعني: حتى لا يكون مفشيا سر النبي ﷺ.
قلت: وقد كانوا أربعة عشر رجلا.
وقيل: كانوا اثني عشر رجلا.
وذكر ابن إسحاق أن رسول الله ﷺ بعث إليهم حذيفة بن اليمان فجمعهم له، فأخبرهم رسول الله ﷺ ما كان من أمرهم، وبما تمالئوا عليه.
ثم سرد ابن إسحاق أسماءهم.
قال: وفيهم أنزل الله عز وجل: { وهموا بما لم ينالوا }. [التوبة: 74] .
وروى البيهقي من طريق محمد بن مسلمة عن أبي إسحاق، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة بن اليمان، قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله ﷺ أقود به، وعمار يسوق الناقة - أو أنا أسوق الناقة وعمار يقود به - حتى إذا كنا بالعقبة، إذا باثني عشر رجلا قد اعترضوه فيها.
قال: فأنبهت رسول الله ﷺ فصرخ بهم فولوا مدبرين.
فقال لنا رسول الله: «هل عرفتم القوم؟».
قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب.
قال: «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟».
قلنا: لا.
قال: «أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة، فيلقوه منها».
قلنا: يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟.
قال: «لا أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل لقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم».
ثم قال: «اللهم ارمهم بالدبيلة».
قلنا: يا رسول الله، وما الدبيلة؟
قال: «هي شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك»
وفي صحيح مسلم من طريق شعبة عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس بن عبادة قال:
قلت لعمار: أرأيتم صنيعكم هذا فيما كان من أمر علي، أرأي رأيتموه أم شيء عهده إليكم رسول الله؟
فقال: ما عهد إلينا رسول الله ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس كافة، ولكن حذيفة أخبرني عن رسول الله ﷺ أنه قال «في أصحابي إثنا عشر منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط».
وفي رواية من وجه آخر عن قتادة: «إن في أمتي إثنى عشر منافقا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم يكفيكهم الدبيلة، سراج من النار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم».
قال الحافظ البيهقي: وروينا عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر - أو خمسة عشر - وأشهد بالله أن اثنى عشر، منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة أنهم قالوا: ما سمعنا المنادي ولا علمنا بما أراد.
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد - هو ابن هارون - أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى: إن رسول الله آخذ بالعقبة فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله ﷺ يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عمارا، وهو يسوق برسول الله ﷺ وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل.
فقال رسول الله ﷺ لحذيفة: «قد قد».
حتى هبط رسول الله ﷺ من الوادي، فلما هبط، ورجع عمار.
قال يا عمار: «هل عرفت القوم؟».
قال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون.
قال: «هل تدري ما أرادوا؟».
قال: الله ورسوله أعلم.
قال: «أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه».
قال: فسار عمار رجلا من أصحاب النبي ﷺ فقال: نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة؟
قال: أربعة عشر رجلا.
فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر.
قال: فعذر رسول الله ﷺ منهم ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم.
فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.