→ ذكر تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم | البداية والنهاية – الجزء الخامس فصل في التلبية ابن كثير |
ذكرالأماكن التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب من المدينة إلى مكة في عمرته وحجته ← |
في إيراد حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في حجة رسول الله ﷺ وهو وحده منسك مستقل، رأينا أن إيراده ههنا أنسب لتضمنه التلبية وغيرها كما سلف، وما سيأتي فنورد طرقه وألفاظه ثم نتبعه بشواهده من الأحاديث الواردة في معناه، وبالله المستعان.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، ثنا جعفر بن محمد، حدثني أبي قال: أتينا جابر بن عبد الله وهو في بني سلمة - فسألناه عن حجة رسول الله ﷺ، فحدثنا أن رسول الله ﷺ مكث في المدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس أن رسول الله ﷺ حاج في هذا العام قال: فنزل المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ﷺ ويفعل ما يفعل، فخرج رسول الله ﷺ لخمس بقين من ذي القعدة وخرجنا معه، حتى إذا أتى ذا الحليفة نفست أسماء بنت عميس بمحمد ابن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله ﷺ كيف أصنع؟
قال: «اغتسلي ثم استثفري بثوب، ثم أهلي».
فخرج رسول الله ﷺ حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ولبى الناس، والناس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبي ﷺ يسمع فلم يقل لهم شيئا، فنظرت مد بصري بين يدي رسول الله ﷺ من راكب وماش، ومن خلفه كذلك، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك، قال جابر: ورسول الله ﷺ بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملناه، فخرجنا لا ننوي إلا الحج، حتى إذا أتينا الكعبة فاستلم نبي الله ﷺ الحجر الأسود، ثم رمل ثلاثة ومشى أربعة، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [البقرة: 125] .
قال أحمد: وقال أبو عبد الله - يعني: - جعفر - فقرأ فيهما بالتوحيد، وقل يا أيها الكافرون، ثم استلم الحجر وخرج إلى الصفا، ثم قرأ { إن الصفا والمروة من شعائر الله } [البقرة: 158] .
ثم قال: «نبدأ بما بدأ الله به» فرقي على الصفا حتى إذا نظر إلى البيت كبر ثم قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده وصدق وعده، وهزم - أو غلب - الأحزاب وحده» ثم دعا، ثم رجع إلى هذا الكلام، ثم نزل حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل، حتى إذا صعد مشى، حتى إذا أتى المروة فرقي عليها حتى نظر إلى البيت فقال عليها كما قال على الصفا، فلما كان السابع عند المروة قال: «يا أيها الناس إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن لم يكن معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة» فحل الناس كلهم.
فقال سراقة بن مالك بن جعثم - وهو في أسفل الوادي -: يا رسول الله ألعامنا هذا، أم للأبد؟
فشبك رسول الله ﷺ أصابعه فقال: «للأبد ثلاث مرات» ثم قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
قال: وقدم علي من اليمن بهدي وساق رسول الله ﷺ معه هدي من المدينة هديا، فإذا فاطمة قد حلت ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: أمرني به أبي.
قال: قال علي بالكوفة: قال جعفر: قال: إلى هذا الحرف لم يذكره جابر، فذهبت محرشا استفتي رسول الله ﷺ في الذي ذكرت فاطمة.
قلت: إن فاطمة لبست ثيابا صبيغا واكتحلت وقالت: أمرني أبي.
قال: «صدقت صدقت، أنا أمرتها به».
وقال جابر: وقال لعلي: «بم أهللت»؟
قال: قلت: اللهم إني أهل لما أهل به رسولك قال: ومعي الهدي.
قال: «فلا تحل».
قال: وكان جماعة الهدي الذي أتى به علي من اليمن، والذي أتى به رسول الله ﷺ مائة، فنحر رسول الله ﷺ بيده ثلاثا وستين، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.
ثم قال رسول الله ﷺ: «قد نحرت ههنا، ومنى كلها منحر»، ووقف بعرفة فقال: «وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف» ووقف بالمزدلفة وقال: «وقفت ههنا والمزدلفة كلها موقف».
هكذا أورد الإمام أحمد هذا الحديث وقد اختصر آخره جدا.
ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في المناسك من صحيحه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله فذكره.
وقد أعلمنا على الزيادات المتفاوتة من سياق أحمد ومسلم إلى قوله عليه السلام لعلي: «صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟»
قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك ﷺ.
قال علي: فإن معي الهدي.
قال: «فلا تحل».
قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله ﷺ مائة.
قال: فحل الناس كلهم، وقصروا إلا النبي ﷺ ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله ﷺ فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة له من شعر، فضربت له بنمرة، فسار رسول الله ﷺ ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله ﷺ حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، ورباء الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده أن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟»
قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت، وأديت.
فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات».
ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله ﷺ حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع رسول الله ﷺ وقد شنق القصواء الزمام، حتى أن رأسها لتصيب مورك رجله، ويقول بيده اليمنى: «أيها الناس السكينة السكينة»، كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب، والعشاء بأذان وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله ﷺ حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا، فحمد الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، ودفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن العباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله ﷺ مرت ظعن بجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله ﷺ يده على وجه الفضل، فحول الفضل يده إلى الشق الآخر، فحول رسول الله ﷺ يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى إذا أتى بطن محسر فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف، رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها، وشربا من مرقعها، ثم ركب رسول الله ﷺ فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب وهم يستقون على زمزم.
فقال: «انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» فناولوه دلوا فشرب منه.
ثم رواه مسلم عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر فذكره بنحوه، وذكر قصة أبي سيارة، وأنه كان يدفع بأهل الجاهلية على حمار عرى، وأن رسول الله ﷺ قال: «نحرت ههنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ههنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت ههنا وجمع كلها موقف».
وقد رواه أبو داود بطوله عن النفيلي، وعثمان ابن أبي شيبة، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة والشيء، أربعتهم عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بنحو من رواية مسلم، وقد رمزنا لبعض زياداته عليه.
ورواه أبو داود أيضا والنسائي، عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد القطان، عن جعفر به.
ورواه النسائي أيضا عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد ببعضه، عن إبراهيم بن هارون البلخي، عن حاتم بن إسماعيل ببعضه.