→ فصل غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله عليه السلام | البداية والنهاية – الجزء الخامس أبو بكر الصديق أميرا على الحج ابن كثير |
موت النجاشي سنة تسع وموت أم كلثوم بنت رسول الله ← |
ذكر بعث رسول الله ﷺ أبا بكر الصديق أميرا على الحج سنة تسع ونزول سورة براءة
قال ابن إسحاق بعد ذكره وفود أهل الطائف إلى رسول الله ﷺ في رمضان، كما تقدم بيانه مبسوطا قال: أقام رسول الله ﷺ بقية شهر رمضان، وشوالا، وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، وأهل الشرك على منازلهم من حجهم لم يصدوا بعد عن البيت، ومنهم من له عهد مؤقت إلى أمد، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه بمن معه من المسلمين وفصل عن البيت، أنزل الله عز وجل هذه الآيات من أول سورة التوبة: { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } إلى قوله: { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله } إلى آخر القصة.
ثم شرع ابن إسحاق يتكلم على هذه الآيات، وقد بسطنا الكلام عليها في التفسير ولله الحمد والمنة.
والمقصود أن رسول الله ﷺ بعث عليا رضي الله عنه بعد أبي بكر الصديق ليكون معه، ويتولى علي بنفسه إبلاغ البراءة إلى المشركين نيابة عن رسول الله ﷺ لكونه ابن عمه من عصبته.
قال ابن إسحاق: حدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: لما نزلت براءة على رسول الله ﷺ وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر.
فقال «لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي»، ثم دعا علي ابن أبي طالب فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ألا إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدته».
فخرج علي ابن أبي طالب على ناقة رسول الله ﷺ العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟
فقال: بل مأمور.
ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي ابن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله ﷺ أجل أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم، وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله ﷺ عهد فهو له إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله ﷺ.
وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقد قال البخاري باب حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع: حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع، حدثنا فليح عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها النبي ﷺ قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن في البيت عريان.
وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق في تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان.
قال حميد: ثم أردف النبي ﷺ بعلي فأمره أن يؤذن ببراءة.
قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان.
وقال البخاري في كتاب الجهاد: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب عن الزهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق فيمن يؤذن يوم النحر بمنى؛ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل: الأكبر من أجل قول الناس العمرة الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله ﷺ مشرك.
ورواه مسلم من طريق الزهري به نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن مغيرة، عن الشعبي، عن محرز ابن أبي هريرة، عن أبيه قال: كنت مع علي ابن أبي طالب حين بعثه رسول الله ﷺ فقال: ما كنتم تنادون؟
قالوا: كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف في البيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله ﷺ عهد فإن أجله أو أمده إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك.
قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي.
وهذا إسناد جيد، لكن فيه نكارة من جهة قول الراوي: إن من كان له عهد فأجله إلى أربعة أشهر.
وقد ذهب إلى هذا ذاهبون، ولكن الصحيح: أن من كان له عهد فأجله إلى أمده بالغا ما بلغ، ولو زاد على أربعة أشهر، ومن ليس له أمد بالكلية فله تأجيل أربعة أشهر.
بقي قسم ثالث، وهو من له أمد يتناهى إلى أقل من أربعة أشهر من يوم التأجيل، وهذا يحتمل أن يلتحق بالأول فيكون أجله إلى مدته وإن قل، ويحتمل أن يقال: إنه يؤجل إلى أربعة أشهر، لأنه أولى ممن ليس له عهد بالكلية، والله تعالى أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد عن سماك، عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ بعث براءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال: «لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي».
فبعث بها مع علي ابن أبي طالب.
وقد رواه الترمذي من حديث حماد بن سلمة وقال: حسن غريب من حديث أنس.
وقد روى عبد الله بن أحمد عن لوين، عن محمد بن جابر، عن سماك، عن حلس، عن علي أن رسول الله ﷺ لما أردف أبا بكر بعلي فأخذ منه الكتاب بالجحفة، رجع أبو بكر فقال: يا رسول الله نزل في شيء؟
قال: «لا، ولكن جبريل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك».
وهذا ضعيف الإسناد، ومتنه فيه نكارة، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن زيد بن بثيع رجل من همدان قال: سألنا عليا بأي شيء بعثت يوم بعثه رسول الله ﷺ مع أبي بكر في الحجة؟
قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا.
وهكذا رواه الترمذي من حديث سفيان - هو: ابن عيينة - عن أبي إسحاق السبيعي، عن زيد بن بثيع، عن علي به.
وقال: حسن صحيح.
ثم قال: وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق فقال: عن زيد بن أثيل.
ورواه الثوري عن أبي إسحاق، عن بعض أصحابه عن علي.
قلت: ورواه ابن جرير من حديث معمر عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، أخبرنا حيوة بن شريح، أخبرنا ابن صخر أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول: سألت علي ابن أبي طالب عن يوم الحج الأكبر.
فقال: إن رسول الله ﷺ بعث أبا بكر ابن أبي قحافة يقيم للناس الحج، وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة فلما قضى خطبته، التفت إلي فقال: قم يا علي فأد رسالة رسول الله ﷺ فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة، ثم صدرنا فأتينا منى فرميت الجمرة، ونحرت البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضورا كلهم خطبة أبي بكر رضي الله عنه يوم عرفة، فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم.
قال علي: فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر، ألا وهو يوم عرفة.
وقد تقصينا الكلام على هذا المقام في التفسير وذكرنا أسانيد الأحاديث، والآثار في ذلك مبسوطا بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.
قال الواقدي: وقد كان خرج مع أبي بكر من المدينة ثلثمائة من الصحابة، منهم: عبد الرحمن بن عوف، وخرج أبو بكر معه بخمس بدنات، وبعث معه رسول الله ﷺ بعشرين بدنة، ثم أردفه بعلي فلحقه بالعرج فنادى ببراءة أمام الموسم.