→ بيان رواية الجماعة لما رواه الصديق وموافقتهم على ذلك | البداية والنهاية – الجزء الخامس فصل النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث ابن كثير |
باب زوجاته وأولاده صلى الله عليه وسلم ← |
وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل، وتكلفوا ما لا علم لهم به، ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم، وحاول بعضهم أن يرد خبر أبي بكر رضي الله عنه فيما ذكرناه بأنه مخالف للقرآن حيث يقول الله تعالى: { وورث سليمان داود } الآية [النمل: 16] .
وحيث قال تعالى: إخبارا عن زكريا أنه قال: { فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا } [مريم: 5 - 6] .
واستدلالهم بهذا باطل من وجوه:
أحدها: أن قوله: { وورث سليمان داود } إنما يعني بذلك في الملك والنبوة أي: جعلناه قائما بعده فيما كان يليه من الملك وتدبير الرعايا، والحكم بين بني إسرائيل، وجعلناه نبيا كريما كأبيه، وكما جمع لأبيه الملك والنبوة، كذلك جعل ولده بعده، وليس المراد بهذا وراثة المال، لأن داود كما ذكره كثير من المفسرين كان له أولاد كثيرون يقال: مائة، فلم اقتصر على ذكر سليمان من بينهم لو كان المراد وراثة المال، إنما المراد وراثة القيام بعده في النبوة والملك، ولهذا قال: { وورث سليمان داود }.
وقال { ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين } [النمل: 16] وما بعدها من الآيات.
وقد أشبعنا الكلام على هذا في كتابنا (التفسير) بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة كثيرا.
وأما قصة زكريا فإنه عليه السلام من الأنبياء الكرام، والدنيا كانت عنده أحقر من أن يسأل الله ولدا ليرثه في ماله كيف؟ وإنما كان نجارا يأكل من كسب يده كما رواه البخاري، ولم يكن ليدخر منها فوق قوته حتى يسأل الله ولدا يرث عنه ماله أن لو كان له مال وإنما سأل ولدا صالحا يرثه في النبوة والقيام بمصالح بني إسرائيل، وحملهم على السداد.
ولهذا قال تعالى: { كهيعص * ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا } القصة بتمامها. [مريم: 1 - 5] .
فقال: { وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب } يعني: النبوة، كما قررنا ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة.
وقد تقدم في رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، عن أبي بكر أن رسول الله ﷺ قال: «النبي لا يورث».
وهذا اسم جنس يعم كل الأنبياء.
وقد حسنه الترمذي.
وفي الحديث الآخر: «نحن معشر الأنبياء لا نورث».
والوجه الثاني: أن رسول الله ﷺ قد خص من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها، كما سنعقد له بابا مفردا في آخر السيرة إن شاء الله، فلو قدر أن غيره من الأنبياء يورثون وليس الأمر كذلك لكان ما رواه من ذكرنا من الصحابة الذين منهم الأئمة الأربعة؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي مبينا لتخصيصه بهذا الحكم دون ما سواه.
والثالث: أنه يجب العمل بهذا الحديث، والحكم بمقتضاه كما حكم به الخلفاء، واعترف بصحته العلماء سواء كان من خصائصه أم لا.
فإنه قال: «لا نورث ما تركناه صدقة» إذ يحتمل من حيث اللفظ أن يكون قوله عليه السلام: «ما تركنا صدقة» أن يكون خبرا عن حكمه أو حكم سائر الأنبياء معه، على ما تقدم وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون إنشاء وصيته كأنه يقول: لا نورث لأن جميع ما تركناه صدقة، ويكون تخصيصه من حيث جواز جعله ماله كله صدقة، والاحتمال الأول أظهر وهو الذي سلكه الجمهور.
وقد يقوي المعنى الثاني بما تقدم من حديث مالك وغيره عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «لا تقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة».
وهذا اللفظ مخرج في الصحيحين، وهو يرد تحريف من قال من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث: ما تركنا صدقة بالنصب، جعل - ما - نافية، فكيف يصنع بأول الحديث وهو قوله: لا نورث؟!.
وبهذه الرواية: «ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة» وما شأن هذا إلا كما حكي عن بعض المعتزلة أنه قرأ على شيخ من أهل السنة «وكلم الله موسى تكليما» بنصب الجلالة فقال له الشيخ: ويحك كيف تصنع بقوله تعالى: «فلما جاء موسى لميقاتنا فكلمه ربه».
والمقصود: أنه يجب العمل بقوله ﷺ: «لا نورث ما تركنا صدقة» على كل تقدير احتمله اللفظ، والمعنى فإنه مخصص لعموم آية الميراث، ومخرج له عليه السلام منها، إما وحده أو مع غيره من إخوانه الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام.