→ قصة سقيفة بني ساعدة | البداية والنهاية – الجزء الخامس فصل خلافة أبي بكر ابن كثير |
فصل في ذكر الوقت الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ← |
ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع المهاجرين منهم والأنصار على تقديم أبي بكر، وظهر برهان قوله عليه السلام: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وظهر له أن رسول الله ﷺ لم ينص على الخلافة عينا لأحد من الناس لا لأبي بكر كما قد زعمه طائفة من أهل السنة، ولا لعلي كما يقوله طائفة من الرافضة، ولكن أشار إشارة قوية!يفهمها كل ذي لب وعقل إلى الصديق، كما قدمنا وسنذكره ولله الحمد.
كما ثبت في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: ألا تستخلف يا أمير المؤمنين؟
فقال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني: أبا بكر -، وإن أترك، فقد ترك من هو خير مني يعني: رسول الله ﷺ.
قال ابن عمر: فعرفت حين ذكر رسول الله ﷺ أنه غير مستخلف.
وقال سفيان الثوري عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن سفيان قال: لما ظهر علي على الناس قال: يا أيها الناس إن رسول الله ﷺ لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن يستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله - أو قال: حتى ضرب ألين بجرانه - إلى آخره.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو نعيم، ثنا شريك عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان قال: خطب رجل يوم البصرة حين ظهر علي فقال علي: هذا الخطيب السجسج، سبق رسول الله ﷺ وصلى أبو بكر، وثلث عمر، ثم خبطتنا فتنة بعدهم يصنع الله فيها ما يشاء.
وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد الزكي بمرو، ثنا عبد الله بن روح المدائني، ثنا شبابة بن سوار، ثنا شعيب بن ميمون عن حصين بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن أبي وائل قال: قيل لعلي ابن أبي طالب: ألا تستخلف علينا؟
فقال: ما استخلف رسول الله ﷺ فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.
إسناد جيد، ولم يخرجوه.
وقد قدمنا ما ذكره البخاري من حديث الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن ابن عباس أن عباسا وعليا لما خرجا من عند رسول الله ﷺ فقال رجل: كيف أصبح رسول الله ﷺ؟
فقال علي: أصبح بحمد الله بارئا.
فقال العباس: إنك والله عبد العصا بعد ثلاث، إني لأعرف في وجوه بني هاشم الموت، وإني لأرى في وجه رسول الله الموت، فاذهب بنا إليه فنسأله فيمن هذا الأمر فإن كان فينا عرفناه، وإن كان في غيرنا أمرناه فوصاه بنا.
فقال علي: إني لا أسأله ذلك، والله إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده أبدا.
وقد رواه محمد بن إسحاق عن الزهري به، فذكره وقال فيه: فدخلا عليه في يوم قبض ﷺ، فذكره وقال في آخره: فتوفي رسول الله ﷺ حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.
قلت: فهذا يكون في يوم الإثنين يوم الوفاة، فدل على أنه عليه السلام توفي عن غير وصية في الإمارة.
وفي الصحيحين عن ابن عباس أن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب ذلك الكتاب، وقد قدمنا أنه عليه السلام كان طلب أن يكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عنده قال: «قوموا عني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه».
وقد قدمنا أنه قال بعد ذلك: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عون عن إبراهيم التيمي، عن الأسود قال: قيل لعائشة: إنهم يقولون أن رسول الله ﷺ أوصى إلى علي.
فقالت: بما أوصى إلى علي؟ لقد دعا بطست ليبول فيها، وأنا مسندته إلى صدري فانحنف فمات، وما شعرت فيم يقول هؤلاء أنه أوصى إلى علي.
وفي الصحيحين من حديث مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله ابن أبي أوفى هل أوصى رسول الله ﷺ؟
قال: لا!
قلت: فلم أمرنا بالوصية؟
قال: أوصى بكتاب الله عز وجل.
قال طلحة بن مصرف وقال هذيل بن شرحبيل: أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ﷺ ود أبو بكر أنه وجد عهدا من رسول الله ﷺ فخرم أنفه بخرامة.
وفي الصحيحين أيضا من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: خطبنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقال: من زعم أن عندنا شيئا نقرأه ليس في كتاب الله، وهذه الصحيفة لصحيفة معلقة في سيفه فيها أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات فقد كذب.
وفيها قال: قال رسول الله ﷺ: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا».
وهذا الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما عن علي رضي الله عنه يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله ﷺ أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة، فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته ﷺ وبعد وفاته من أن يقتاتوا عليه فيقدموا غير من قدمه، ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا ولما، ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطئ على معاندة الرسول ﷺ ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام، ثم لو كان مع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه نص، فلم لا كان يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم؟ فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز، والعاجز لا يصلح للإمارة، وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن، والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل، ثم وقد عرفه وعلمه من بعده هذا محال، وافتراء، وجهل، وضلال، وإنما يحسن هذا في أذهان الجهلة الطغام، والمغترين من الأنام، يزينه لهم الشيطان بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد التحكم والهذيان، والإفك والبهتان، عياذا بالله مما هم فيه من التخليط والخذلان، والتخبيط والكفران، وملاذا بالله بالتمسك بالسنة والقرآن، والوفاة على الإسلام والإيمان، والموافاة على الثبات والإيقان، وتثقيل الميزان، والنجاة من النيران، والفوز بالجنان، إنه كريم منان، رحيم رحمن.
وفي هذا الحديث الثابت في الصحيحين، عن علي الذي قدمناه رد على متقولة كثير من الطرقية، والقصاص الجهلة في دعواهم أن النبي ﷺ أوصى إلى علي بأشياء كثيرة يسوقونها مطولة، يا علي إفعل كذا، يا علي لا تفعل كذا، يا علي من فعل كذا كان كذا وكذا بألفاظ ركيكة، ومعاني أكثرها سخيفة، وكثير منها صحفية لا تساوي تسويد الصحيفة، والله أعلم.
وقد أورد الحافظ البيهقي من طريق حماد بن عمرو النصيبي وهو: أحد الكذابين الصواغين - عن السري بن خلاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي ابن أبي طالب، عن النبي ﷺ قال: «يا علي أوصيك بوصية إحفظها، فإنك لا تزال بخير ما حفظتها، يا علي إن للمؤمن ثلاث علامات: الصلاة، والصيام، والزكاة».
قال البيهقي: فذكر حديثا مطويلا في الرغائب والآداب، وهو حديث موضوع، وقد شرطت في أول الكتاب أن لا أخرج فيه حديثا أعلمه موضوعا، ثم روى من طريق حماد بن عمر، وهذا عن زيد بن رفيع، عن مكحول الشامي قال: هذا ما قال رسول الله ﷺ لعلي ابن أبي طالب حين رجع من غزوة حنين، وأنزلت عليه سورة النصر.
قال البيهقي: فذكر حديثا طويلا في الفتنة، وهو أيضا حديث منكر ليس له أصل، وفي الأحاديث الصحيحية كفاية، وبالله التوفيق.
ولنذكر هاهنا ترجمة حماد بن عمرو أبي إسماعيل النصيبي، روى عن الأعمش وغيره، وعنه إبراهيم بن موسى، ومحمد بن مهران، وموسى بن أيوب، وغيرهم.
قال يحيى بن معين: هو ممن يكذب ويضع الحديث.
وقال عمرو بن علي الفلاس، وأبو حاتم: منكر الحديث ضعيف جدا.
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: كان يكذب.
وقال البخاري: منكر الحديث.
وقال أبو زرعة: واهي الحديث.
وقال النسائي: متروك.
وقال ابن حبان: يضع الحديث وضعا.
وقال ابن عدي: عامة حديثه مما لا يتابعه أحد من الثقات عليه.
وقال الدارقطني: ضعيف.
وقال الحاكم أبو عبد الله: يروي عن الثقات أحاديث موضوعة، وهو ساقط بمرة.
فأما الحديث الذي قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا حمزة بن العباس العقبي ببغداد، ثنا عبد الله بن روح المدائني، ثنا سلام بن سليمان المدائني، ثنا سلام بن سليم الطويل عن عبد الملك بن عبد الرحمن، عن الحسن المقبري، عن الأشعث بن طليق، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود قال: لما ثقل رسول الله ﷺ اجتمعنا في بيت عائشة، فنظر إلينا رسول الله ﷺ فدمعت عيناه ثم قال لنا: «قد دنا الفراق» ونعى إلينا نفسه.
ثم قال: «مرحبا بكم، حياكم الله، هداكم الله، نصركم الله، نفعكم الله، وفقكم الله، سددكم الله، وقاكم الله، أعانكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم واستخلفه عليكم إني لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإن الله قال لي ولكم: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين» وقال: «أليس في جهنم مثوى للمتكبرين».
قلنا: فمتى أجلك يا رسول الله؟
قال: «قد دنا الأجل، والمنقلب إلى الله، والسدرة المنتهى، والكأس الأوفى، والفرش الأعلى».
قلنا: فمن يغسلك يا رسول الله؟
قال: «رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم».
قلنا: ففيم نكفنك يا رسول الله؟
قال: «في ثيابي هذه إن شئتم، أو في يمنية، أو في بياض مصر».
قلنا: فمن يصلي عليك يا رسول الله؟
فبكى وبكينا وقال: «مهلا!غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيكم خيرا، إذا غسلتموني، وحنطتموني، وكفنتموني، فضعوني على شفير قبري، ثم أخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي علي خليلاي وجليساي جبريل وميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنود من الملائكة عليهم السلام، وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي، ثم نساؤهم، ثم ادخلوا علي أفواجا أفواجا، وفرادى فرادى، ولا تؤذوني بباكية ولا برنة ولا بضجة، ومن كان غائبا من أصحابي فأبلغوه عني السلام، وأشهدكم بأني قد سلمت على من دخل في الإسلام، ومن تابعني في ديني، هذا منذ اليوم إلى يوم القيامة».
قلنا: فمن يدخلك قبرك يا رسول الله؟
قال: «رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم».
ثم قال البيهقي: تابعه أحمد بن يونس عن سلام الطويل، وتفرد به سلام الطويل.
قلت: وهو سلام بن مسلم ويقال: ابن سليم، ويقال: ابن سليمان، والأول أصح، التميمي السعدي الطويل يروي عن جعفر الصادق، وحميد الطويل، وزيد العمي، وجماعة، وعنه جماعة أيضا منهم: أحمد بن عبد الله بن يونس، وأسد بن موسى، وخلف بن هشام البزار، وعلي بن الجعد، وقبيصة بن عقبة، وقد ضعفه علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والجوزجاني، والنسائي، وغير واحد، وكذبه بعض الأئمة، وتركه آخرون.
لكن روى هذا الحديث بهذا السياق بطوله الحافظ أبو بكر البزار من غير طريق سلام هذا فقال: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن ابن الأصبهاني، أنه أخبره عن مرة، عن عبد الله فذكر الحديث بطوله.
ثم قال البزار: وقد روى هذا عن مرة من غير وجه بأسانيد متقاربة، وعبد الرحمن ابن الأصبهاني لم يسمع هذا من مرة وإنما هو عمن أخبره عن مرة، ولا أعلم أحدا رواه عن عبد الله، عن مرة.