→ باب ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم | البداية والنهاية – الجزء الخامس باب بيان أنه عليه السلام قال لا نورث ابن كثير |
بيان رواية الجماعة لما رواه الصديق وموافقتهم على ذلك ← |
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة يبلغ به وقال مرة: قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يقتسم ورثتي دينارا، ولا درهما، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عامي فهو صدقة».
وقد رواه البخاري ومسلم، وأبو داود، من طرق، عن مالك بن أنس عن أبي الزناد عبد الله ابن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي فهو صدقة».
لفظ البخاري، ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن أزواج النبي ﷺ حين توفي رسول الله ﷺ أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر ليسألنه ميراثهن فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله ﷺ: «لا نورث ما تركنا صدقة؟»
وهكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القعنبي، والنسائي عن قتيبة، كلهم عن مالك به، فهذه إحدى النساء الوارثات إن لو قدر ميراث - قد اعترفت أن رسول الله ﷺ جعل ما تركه صدقة لا ميراثا، والظاهر أن بقية أمهات المؤمنين وافقنها على ما روت، وتذكرن ما قالت لهن من ذلك، فإن عبارتها تؤذن بأن هذا أمر مقرر عندهن، والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبان، ثنا عبد الله بن المبارك عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «لا نورث ما تركنا صدقة».
وقال البخاري - باب قول رسول الله: «لا نورث ما تركنا صدقة»: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا هشام، أنبأنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر رضي الله عنه يلتمسان ميراثهما من رسول الله ﷺ، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر.
فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال».
قال أبو بكر: والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله ﷺ يصنعه فيه إلا صنعته.
قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت.
وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر.
ثم رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله ميراثها مما ترك مما أفاء الله عليه.
فقال لها أبو بكر: إن رسول الله ﷺ قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» فغضبت فاطمة وهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت.
قال: وعاشت فاطمة بعد وفاة رسول الله ﷺ ستة أشهر، وذكر تمام الحديث هكذا قال الإمام أحمد.
وقد روى البخاري هذا الحديث في كتاب (المغازي) من صحيحه عن ابن أبي بكير، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة كما تقدم، وزاد: فلما توفيت دفنها علي ليلا، ولم يؤذن أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر: إيتنا ولا يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر، فقال عمر: والله لا تدخل عليهم وحدك.
قال أبو بكر: وما عسى أن يصنعوا بي؟ والله لآتينهم.
فانطلق أبو بكر رضي الله عنه وقال: إنا قد عرفنا فضلك، وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك، ولكنكم استبددتم بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله ﷺ أن لنا في هذا الأمر نصيبا.
فلم يزل علي يذكر حتى بكى أبو بكر رضي الله عنه.
وقال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله ﷺ أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بينكم في هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمرا صنعه رسول الله ﷺ إلا صنعته، فلما صلى أبو بكر رضي الله عنه الظهر رقي على المنبر فتشهد، وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة، وعذره بالذي اعتذر به، وتشهد علي رضي الله عنه فعظم حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ثم قام إلى أبي بكر رضي الله عنهما فبايعه، فأقبل الناس على علي فقالوا: أحسنت وكان الناس إلى علي قريبا حين راجع الأمر بالمعروف.
وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم، وأبو داود، والنسائي من طرق متعددة عن الزهري، عن عروة، عن عائشة بنحوه.
فهذه البيعة التي وقعت من علي رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها بيعة مؤكدة للصلح الذي وقع بينهما، وهي ثانية للبيعة التي ذكرناها أولا يوم السقيفة كما رواه ابن خزيمة، وصححه مسلم بن الحجاج، ولم يكن علي مجانبا لأبي بكر هذه الستة الأشهر بل كان يصلي وراءه، ويحضر عنده للمشورة، وركب معه إلى ذي القصة، كما سيأتي.
وفي صحيح البخاري أن أبا بكر رضي الله عنه صلى العصر بعد وفاة رسول الله ﷺ بليال، ثم خرج من المسجد، فوجد الحسن بن علي يلعب مع الغلمان فاحتمله على كاهله وجعل يقول: يا بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي، وعلي يضحك، ولكن لما وقعت هذه البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أن عليا لم يبايع قبلها فنفى ذلك، والمثبت مقدم على النافي، كما تقدم وكما تقرر، والله أعلم.
وأما تغضب فاطمة رضي الله عنها وأرضاها على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فما أدري ما وجهه، فإن كان لمنعه إياها ما سألته من الميراث فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها رسول الله ﷺ أنه قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» وهي ممن تنقاد لنص الشارع الذي خفي عليها قبل سؤالها الميراث كما خفي على أزواج النبي ﷺ حتى أخبرتهن عائشة بذلك ووافقنها عليه، وليس يظن بفاطمة رضي الله عنها أنها اتهمت الصديق رضي الله عنه فيما أخبرها به، حاشاها وحاشاه من ذلك كيف وقد وافقه على رواية هذا الحديث عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد ابن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين كما سنبينه قريبا، ولو تفرد بروايته الصديق رضي الله عنه لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته، والانقياد له في ذلك.
وإن كان غضبها لأجل ما سألت الصديق إذ كانت هذه الأراضي صدقة لا ميراثا، أن يكون زوجها ينظر فيها، فقد اعتذر بما حاصله أنه لما كان خليفة رسول الله ﷺ فهو يرى أن فرضا عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله ﷺ، ويلي ما كان يليه رسول الله، ولهذا قال: وإني والله لا أدع أمرا كان يصنعه فيه رسول الله ﷺ إلا صنعته قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت، وهذا الهجران والحالة هذه فتح على الفرقة الرافضة شرا عريضا وجهلا طويلا، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم، ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله.