→ وفد طيء مع زيد الخيل رضي الله عنه | البداية والنهاية – الجزء الخامس قصة عدي بن حاتم الطائي ابن كثير |
قصة دوس والطفيل بن عمرو ← |
قال البخاري في (الصحيح): وفد طيء وحديث عدي بن حاتم: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، ثنا عبد الملك بن عمير عن عمرو بن حريث، عن عدي بن حاتم قال: أتينا عمر بن الخطاب في وفد فجعل يدعو رجلا رجلا يسميهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟
قال: بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا.
فقال عدي: لا أبالي إذا.
وقال ابن إسحاق: وأما عدي بن حاتم فكان يقول: فيما بلغني ما رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله ﷺ حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرءا شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومي بالمرباع، وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله ﷺ كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعيا لإبلي: لا أبالك، أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا، فاحتبسها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل، ثم أنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد.
قال: قلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الحوشية، وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها، وتخالفني خيل رسول الله ﷺ فتصيبت ابنة حاتم فيمن أصابت فقدم بها على رسول الله ﷺ في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول الله ﷺ هربي إلى الشام.
قال: فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس بها، فمر بها رسول الله ﷺ فقامت إليه وكانت امرأة جزلة.
فقالت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك.
قال: «ومن وافدك؟»
قالت: عدي بن حاتم.
قال: «الفار من الله ورسوله».
قالت: ثم مضى وتركني، حتى إذا كان الغد مر بي فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس.
قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي، وقد يئست فأشار إلي رجل خلفه أن قومي فكلميه.
قالت: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك.
فقال ﷺ: «قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني»
فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن كلميه فقيل لي: علي ابن أبي طالب.
قالت: فقمت حتى قدم من بلي أو قضاعة قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت فقلت: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي فنظرت إلى ظعينة تصوب إلى قومنا، قال: فقلت: ابنة حاتم قال: فإذا هي هي، فلما وقفت علي استحلت تقول: القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك.
قال: قلت: أي أخية لا تقولي إلا خيرا فوالله مالي من عذر لقد صنعت ما ذكرت.
قال: ثم نزلت فأقامت عندي.
فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟
قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلن تزل في عز اليمن وأنت أنت.
قال: قلت: والله إن هذا الرأي.
قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله ﷺ المدينة فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: «من الرجل؟»
فقلت: عدي بن حاتم فقام رسول الله ﷺ وانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها.
قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك.
قال: ثم مضى بي رسول الله ﷺ حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إلي.
فقال: «اجلس على هذه».
قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها.
قال: «بل أنت».
فجلست وجلس رسول الله ﷺ بالأرض.
قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك.
ثم قال: «إيه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسيا».
قال: قلت: بلى!
قال: «أولم تكن تسير في قومك بالمرباع!».
قال: قلت: بلى.
قال: «فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك».
قال: قلت: أجل!والله.
قال: «وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل».
ثم قال: «لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه إنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم».
قال: فأسلمت.
قال: فكان عدي يقول: مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن وقد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى هذا البيت، وأيم الله لتكونن الثالثة ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه.
هكذا أورد ابن إسحاق رحمه الله هذا السياق بلا إسناد، وله شواهد من وجوه أخر.
فقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت سماك بن حرب، سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم قال: جاءت خيل رسول الله ﷺ وأنا بعقرب فأخذوا عمتي وناسا، فلما أتوا بهم رسول الله ﷺ، قال: فصفوا له.
قالت: يا رسول الله بان الوافد وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فمن علي من الله عليك.
فقال: «ومن وافدك؟».
قالت: عدي بن حاتم.
قال: «الذي فر من الله ورسوله؟».
قالت: فمن علي، فلما رجع ورجل إلى جنبه - ترى أنه علي -.
قال: سليه حملانا قال: فسألته، فأمر لها.
قال عدي: فأتتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها، وقالت: إيته راغبا أو راهبا، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه.
قال: فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان، أو صبي، فذكر قربهم منه فعرفت أنه ليس ملك كسرى، ولا قيصر.
فقال له: «يا عدي بن حاتم ما أفرك؟ أفرك أن يقال: لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله، ما أفرك؟ أفرك أن يقال: الله أكبر فهل شيء هو أكبر من الله عز وجل».
فأسلمت فرأيت وجهه استبشر.
وقال: «إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى».
قال: ثم سألوه، فحمد الله أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فلكم أيها الناس أن ترضخوا من الفضل ارتضخ امرؤ بصاع، ببعض صاع، بقبضة، ببعض قبضة»..
قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: «بتمرة، بشق تمرة وإن أحدكم لاقى الله فقائل، ما أقول ألم أجعلك سميعا بصيرا، ألم أجعل لك مالا وولدا، فماذا قدمت؟ فينظر من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يجد شيئا فما يتقي النار إلا بوجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوه فبكلمة لينة إني لا أخشى عليكم الفاقة، لينصرنكم الله وليعطينكم أو ليفتحن عليكم حتى تسير الظعينة بين الحيرة ويثرب، إن أكثر ما يخاف السرق على ظعينتها».
وقد رواه الترمذي من حديث شعبة وعمرو بن أبي قيس، كلاهما عن سماك ثم قال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة - هو ابن حذيفة - عن رجل قال: قلت لعدي بن حاتم: حديث بلغني عنك أحب أن أسمعه منك.
قال: نعم!لما بلغني خروج رسول الله ﷺ كرهت خروجه كراهية شديدة، فخرجت حتى وقعت ناحية الروم - وفي رواية: حتى قدمت على قيصر -.
قال: فكرهت مكاني ذلك أشد من كراهيتي لخروجه.
قال: قلت: والله لو أتيت هذا الرجل فإن كان كاذبا لم يضرني، وإن كان صادقا علمت.
قال: فقدمت فأتيته فلما قدمت قال الناس: عدي بن حاتم؟ فدخلت على رسول الله ﷺ.
فقال لي: «يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ثلاثا».
قال: قلت: إني علي دين.
قال: «أنا أعلم بدينك منك».
فقلت: أنت تعلم بديني مني؟.
قال: «نعم ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟».
قلت: بلى!.
قال: «هذا لا يحل لك في دينك».
قال: نعم!فلم يعد أن قالها فتواضعت لها.
قال: «أما أني أعلم الذي يمنعك من الإسلام تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة لهم، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟».
قلت: لم أرها وقد سمعت بها.
قال: «فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز».
قال: قلت: كنوز ابن هرمز؟.
قال: «نعم!كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد».
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج!من الحيرة تطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله قد قالها.
ثم قال أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن رجل، وقال حماد وهشام عن محمد ابن أبي عبيدة، ولم يذكر عن رجل.
قال: كنت أسأل الناس عن حديث عدي بن حاتم، وهو إلى جنبي ولا أسأله.
قال: فأتيته فسألته.
فقال: نعم!فذكر الحديث.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبانا أبو عمرو الأديب أنبانا أبو بكر الإسماعيلي، أخبرني الحسن بن سفيان، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا النضر بن شميل، أنبأنا إسرائيل، أنبأنا سعد الطائي، أنبأنا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي ﷺ إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، وأتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل.
قال: «يا عدي بن حاتم هل رأيت الحيرة».
قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها.
قال: «فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله عز وجل».
قال: قلت في نفسي: فأين ذعار طيء - الذين سعروا البلاد -.
«ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى بن هرمز».
قلت: كسرى بن هرمز؟
قال: «كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج بملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ليس بيه وبينه ترجمان فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم».
قال عدي: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا شق تمرة فبكلمة طيبة».
قال عدي: فقد رأيت الظعينة ترتحل من الكوفة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله عز وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم ﷺ.
وقد رواه البخاري عن محمد بن الحكم عن النضر بن شميل به بطوله.
وقد رواه من وجه آخر عن سعدان بن بشر، عن سعد أبي مجاهد الطائي، عن محل بن خليفة، عن عدي به.
ورواه الإمام أحمد والنسائي من حديث شعبة عن سعد أبي مجاهد الطائي به.
وممن روى هذه القصة عن عدي عامر بن شرحبيل الشعبي فذكر نحوه.
وقال: لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها.
وثبت في صحيح البخاري من حديث شعبة.
وعند مسلم من حديث زهير بن معاوية كلاهما عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل بن مقرن المزني عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله ﷺ: «اتقوا النار ولو بشق تمرة».
ولفظ مسلم: «من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل».
طريق أخرى فيها شاهد لما تقدم.
وقد قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر ابن محمد بن عبد الله بن يوسف، ثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي، ثنا ضرار بن صرد، ثنا عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد النخعي قال: قال علي ابن أبي طالب: يا سبحان الله!ما أزهد كثيرا من الناس في خير، عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في الحاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق، فإنها تدل على سبيل النجاح.
فقام إليه رجل فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين سمعته من رسول الله ﷺ.
قال: نعم!وما هو خير منه لما أتى بسبايا طيء وقفت جارية حمراء لعساء، ذلفاء، عيطاء، شماء الأنف، معتدلة القامة، والهامة، درماء الكعبين، خدلة الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين.
قال: فلما رأيتها أعجبت بها، وقلت: لأطلبن إلى رسول الله ﷺ يجعلها في فيئي، فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها.
فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عنا، ولا تشمت بنا أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيء.
فقال رسول الله ﷺ: «يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق».
فقام أبو بردة ابن نيار فقال: يا رسول الله تحب مكارم الأخلاق؟
فقال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده لا يدخل أحد الجنة إلا بحسن الخلق».
هذا حديث حسن المتن، غريب الإسناد جدا، عزيز المخرج.
وقد ذكرنا ترجمة حاتم طيء أيام الجاهلية عند ذكرنا من مات من أعيان المشهورين فيها، وما كان يسديه حاتم إلى الناس من المكارم، والإحسان، إلا أن نفع ذلك في الآخرة معذوق بالإيمان، وهو ممن لم يقل يوما من الدهر، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
وقد زعم الواقدي أن رسول الله ﷺ بعث علي ابن أبي طالب في ربيع الآخر من سنة تسع إلى بلاد طيء، فجاء معه بسبايا فيهم أخت عدي بن حاتم، وجاء معه بسيفين كانا في بيت الصنم، يقال لأحدهما: الرسوب، والآخر: المخذم، كان الحارث ابن أبي سمر قد نذرهما لذلك الصنم.